الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

عذابُ القَبْر في السيرة النبوية

عذابُ القَبْر في السيرة النبوية

عذابُ القَبْر في السيرة النبوية

السيرة النبوية المُشَرَّفَة تحقق بشموليتها وأحداثها المقاصد العظمى لرسالة الإسلام التي جاء بها نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم، في سموها وسماحتها ورحمتها للعالمين، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(الأنبياء:107).. وقد جمعت السيرة النبوية حياة النبي صلى الله عليه وسلم والتي مِنْ خلال تأملها ودراستها يستنبط العلماء الأحكام الشرعية التي ينتفع بها المسلمون على مر التاريخ والعصور.. كما تُعتبر السيرة النبوية مصدراً مهما في معرفة الكثير مِنْ مسائل العقيدة، ومِنْ ذلك الإيمان بنعيم القبر وعذابه.
والقبر أول منازل الآخرة، جعله الله تعالى فاصلا بين حياتين، وهو إمّا روْضة مِنْ رياض الجنة، أو حُفرة من حفر النار. عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيتُ منظراً قط إلا القبر أفظع منه) رواه الترمذي. ولمَّا كان ما بعد القبر أيسر منه لِمَنْ نجا فإن العبد المؤمن إذا رأى في قبره ما أعد الله عز وجل له من نعيم يقول: (رَبِّ عَجِّل قيام الساعة، كيما أرجع إلى أهلي ومالي)، والعبد الكافر الفاجر إذا رأى ما أعد الله له من العذاب الشديد فإنه يقول على الرغم مما هو فيه من عذاب: (رَب لا تُقِمِ الساعة) رواه أبو داود.

والسيرة النبوية فيها الكثير مِنَ المواقف الدالة على إثبات عذاب القبر ونعيمه، ومن ذلك:
1 ـ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (مرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بحائطٍ (بستان) مِن حيطانِ المدينة، أو مكة، فسمع صوتَ إنسانَين يُعَذَّبان في قُبورهما، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: يُعَذَّبان وما يُعَذَّبان في كبير، ثم قال: بلى، كان أحدهما لا يَستَتِرُ (لا يتجنبه ويتحرز منه) مِنْ بَوْله، وكان الآخر يمشي بالنَّميمة، ثم دعا بجريدَةٍ، فكسَرَها كِسرَتَين، فوضع على كُلِّ قَبرٍ منهما كِسرَةً، فقيل له: يا رسول الله، لِمَ فعَلتَ هذا؟ قال: لعلَّه أنْ يُخَفَّفَ عنهما ما لم تَيبَسا ـ أو: إلى أن يَيبَسا) رواه البخاري. قال ابن حجر: ".. وفي هذا الحديث مِنَ الفوائد غير ما تقدم إثبات عذاب القبر".
2 ـ عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (بينما النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النّجّار على بغلة له ونحن معه إذ حادت به فكادت تلقيه، وإذا أقْبُر (قبور) ستّة أو خمسة أو أربعة، فقال: مَنْ يعرف أصحاب هذه الأقْبر؟ فقال رجل: أنا، قال: فمتى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإشراك، فقال صلى الله عليه وسلم: إنّ هذه الأمّة تبتلى في قبورها، فلولا ألا تدافنوا لدعوتُ الله أن يُسْمِعَكم مِنْ عذاب القبر الّذي أسمع) رواه مسلم.
3 ـ عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (دخَلَتْ عليَّ عجوزان مِنْ عُجُز يهود المدينة، فقالتا: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم، قالت: فكذبتُهما، ولم أنعم أن أصدقهما، فخرجتا، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: يا رسول الله إن عجوزين مِن عُجز يهود المدينة دخلتا عليَّ، فزعمتا أن أهل القبور يعذبون في قبورهم، فقال: صدقتا، إنهم يعذبون عذاباً تسمعه البهائم. قالت: فما رأيتُه بعد في صلاة إلا يتعوذ مِنْ عذاب القبر) رواه مسلم.
4 ـ عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أُقعِدَ المؤمنُ في قبره أُتِيَ، ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}(إبراهيم:27) رواه البخاري. وفي رواية للنسائي صححها الألباني قال البَراء: "{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}: نزلت في عذاب القبر".
5 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (افتتحنا خيبر، ولم نغنم ذهبا أو فضة، إنما غنمنا البقر والإبل والمتاع والحوائط (البساتين)، ثم انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى، ومعه عبد له يقال له مِدْعَم، أهداه له أَحَدُ بني الضِّبَاب (قبيلة من جذام)، فبينما هو يَحُطُّ (ينزل) رَحْلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم عائر (لا يُدرى من رمى به)، حتى أصاب ذلك العبد، فقال الناس: هنيئا له الشهادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل، والذي نفسي بيده، إن الشَّمْلَةَ (كساء غليظ يُلْتحف به) التي أصابها يومَ خيبر مِنَ المغانم، لم تصبها المقاسم (أخذها قبل إدخالها في القسمة)، لتشتعل عليه ناراً، فجاء رجلٌ حين سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بشراك أو بشراكين (جلدة النعل على ظهر القدم) فقال: هذا شيء كنتُ أصبته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شراك، - أو شراكان - من نار) رواه البخاري.
وفي هذا الحديث النبوي: غِلَظُ تَحْريم الغُلول مِن الغَنائمِ قبْلَ أنْ تُقسَّم، وأنَّه لا فَرْق بيْن قَليلِه وكَثيرِه في التحريم. وفيه: علَمٌ مِن أعْلامِ النُّبوَّة، ومُعجِزةٌ ظاهِرةٌ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، حيث يُطلِعُه اللهُ عز وجل على المُغَيَّبات من أحْوالِ المَوْتى، فيَرى المُعَذَّبينَ، ونَوعَ عَذابِهم وسَببَه، ويُخبِر بذلك أصحابه تَحْذيرًا لهم ولأُمَّته جَميعًا عنِ التَّعرُّضِ لأسْباب العذاب.. وقد أورد البيهقي في كتابه المتعلّق بإثبات عذاب القبر حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن خادمه مِدْعم رضي الله عنه، وبوّب على الحديث بقوله: "باب ما يُخاف مِن عذاب القبر في الغلول".

فائدة:
ـ عذاب القبر ونعيمه أمرٌ غيبي ثابت بنصوص الكتاب والسُنة، يجب الإيمان به، ويلحق الروح والبدن معاً، وقد نُقِل اتفاق أهل السُنة على ذلك، وقد أشار إليه القرآن الكريم في قول الله تعالى عن آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}(غافر:46). قال القرطبي: "والجمهور على أن هذا العرض في البرزخ.. احتج بعض أهل العلم في تثبيت عذاب القبر بقوله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} ما دامت الدنيا. كذلك قال مجاهد وعكرمة ومقاتل ومحمد بن كعب كلهم قال: هذه الآية تدل على عذاب القبر في الدنيا، ألا تراه يقول عن عذاب الآخرة: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}". وقال ابن كثير: "وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور، وهي قوله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا}". وقال الشنقيطي في "أضواء البيان": "فقال في هلاكهم في الدنيا: {وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ}(البقرة:50)، وأمثالها من الآيات، وقال في مصيرهم في البرزخ: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا}(غافر: 46)، وقال في عذابهم في الآخرة: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}(غافر:46)".
ـ وعذاب القبر ليس خاصاً بالكافرين، ففي حديث البخاري قوله صلى الله عليه وسلم: (يُعَذَّبانِ وما يُعَذَّبانِ في كبير، ثم قال: بلى، كان أحدُهما لا يَستَتِرُ من بوْلِه، وكان الآخر يمشي بالنَّميمة)، قال ابن حجر: "(يُعذَّبَان وما يعذبان في كبير) .. فهذا الحصر ينفي كونهما كانا كافرين، لأن الكافر وإن عُذِّب على ترك أحكام الإسلام فإنه يُعَذَّب مع ذلك على الكفر بلا خلاف". وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يُسمِعَكم مِن عذاب القبر) رواه مسلم. قال الطيبي: "ومعنى (لولا أن لا تدافنوا) أنهم لو سمعوه لتركوا التدافن حذراً من عذاب القبر، أو لاشتغل كل بخويصته حتى يفضى بهم إلى ترك التدافن.. وقيل: أراد لأسمعتكم عذاب القبر، أي صوته ليزول عنكم استعظامه واستبعاده". وفي كتاب "الإفصاح عن معاني الصحاح للشيبانيّ": "هذا الحديث يدل على وجوب الإيمان بعذاب القبر.. والفقه في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتد حرصه على أن يبين للمسلمين كلهم عذاب القبر يقيناً لا يتمارون فيه حتى كاد يدعو الله أن يسمعهموه".
وقال القرطبي: "قال أبو محمد عبد الحق: اعلم أن عذاب القبر ليس مختصاً بالكافرين، ولا موقوفاً على المنافقين، بل يشاركهم فيه طائفة من المؤمنين، وكل على حاله من عمله، وما استوجبه من خطيئته". وقال ابن أبي العز الحنفي في "شرح الطحاوية": "وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلاً، وسؤال الملكين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا نتكلم في كيفيته، إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته، لكونه لا عهد له به في هذه الدار، والشرع لا يأتي بما تحيله العقول، بل إن الشرع قد يأتي بما تحار فيه العقول، فإن عودة الروح إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا، بل تعاد إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا". وقال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": "بلِ العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعاً باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن وتعذب متصلة بالبدن، والبدن متصل بها، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين، كما يكون للروح مفردة عن البدن.. وإثبات الثواب والعقاب في البرزخ ما بين الموت إلى يوم القيامة: هذا قول السلف قاطبة وأهل السُنة والجماعة، وإنما أنكر ذلك في البرزخ قليل من أهل البدع".
ـ عذاب القبر ثابت بالكتاب والسنة وصحيح السيرة النبوية، ومن ثم ينبغي على المسلم الإيمان والتصديق به، وأن يسارع إلى ما ينجيه منه، ويحرص على الاستعاذة من عذابه. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يتعوذ من عذاب القبر، وعذاب جهنم، وفتنة الدجال) رواه مسلم. ويدعو في الصلاة فيقول: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر) رواه البخاري. وكان صلوات الله وسلامه عليه يوصي أصحابه رضوان الله عليهم أن يتعوذوا من عذاب القبر كما ورد ذلك في أحاديث ومواقف كثيرة. عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: (خَرَجْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجُلٍ مِن الأَنصار فانتهينا إِلَى القبر وَلَمَّا يُلْحَدْ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسْنا حوله كأنـما على رؤوسنا الطَّيْر وفى يدِه عُودٌ يَنْكُتُ به الأرض، فرفع رأسه فقال: اسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ عَذابِ الْقَبْرِ، اسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثلاثا) رواه أبو داود.

مِنْ فوائد دراسة السيرة النبوية: استنباط العلماء للأحكام الشرعية، واستخراج الدروس التربوية، ومعرفة العبادات وكيفيتها، ومعرفة الكثير مِنْ مسائل العقيدة الإسلامية، ومِنْ ذلك الإيمان بسؤال القبر ونعيمه وعذابه.. قال الحافظ ابن رجب في كتابه "أهوال القبور": "وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في عذاب القبر، ففي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت: سألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر، قال: نعم، عذاب القبر حق". وقال النووي في "شرح صحيح مسلم": "اعلم أنَّ مذهب أهل السُنة إثبات عذاب القبر، وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسُنة".

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة