الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أهل السُنة والإيمان بالقضاء والقدَر

أهل السُنة والإيمان بالقضاء والقدَر

أهل السُنة والإيمان بالقضاء والقدَر

الإيمان بالقضاء والقدَر هو التصديق الجازم بأن كل ما يقع في هذا الوجود يجري وِفْق علم الله وتقديره، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يَكُن. ومعنى القضاء والقدر عند أهل وعلماء السُنة: هو تقدير الله عز وجل الأشياء في القِدَم، وعلمه سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده، وصفات مخصوصة، وكتابته ـ سبحانه ـ لذلك، ومشيئته لها، ووقوعها على حسب ما قدَّرها.. وقيل: معنى القدر: تقدير كل شيء تقديرًا مُسْبقًا على خَلْقه وحدوثه، أي تحديد خاصيته وصفته كمَّاً وكَيْفاً، وزماناً ومكاناً. ومعنى القضاء: حدوث الشيء أو الفعل بخاصيته وصفته في الزمان والمكان حسب إرادة الله عز وجل..
قال ابن تيمية: "القضاء والقَدَر في الاصطلاح: هو تقدير الله تعالى الأشياء منذ القِدَم، وعِلْمُه سبحانه أنها ستقع في أوقاتٍ معلومةٍ عنده، وعلى صفاتٍ مخصوصة، وكتابتُه سُبحانه لذلك، ومشيئتُه له، ووقوعُها على حَسَبِ ما قدَّرها". وقال الطحاوي: "وكل شيء يجري بتقدير الله ومشيئته، ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد.. فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن، لا راد لقضائه، ولا مُعَقِّب لحكمه، ولا غالب لأمره". وقال الخطابي: "قد يَحْسَب كثير مِنَ الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله سبحانه العبد على ما قدَّره وقضاه، وليس الأمر كما يتوهمون، وإنما معناه الإخبار عن تقديم علم الله سبحانه بما يكون من اكتسابات العبد وصدورها عَنْ تقديرٍ منه تعالى". وقال ابن أبي يَعْلَى في "الاعتقاد": "ويجب الإيمان بالقدر: خيره وشره، وحلوه ومره، وقليله وكثيره، وظاهره وباطنه، ومحبوبه ومكروهه، وحَسَنه وسيئه، وأوله وآخره من الله، قضى قضاءه على عباده، وقدَّر قدَرَه عليهم، لا أحد يعدو منهم مشيئة الله عزّ وجل، ولا يجاوز قضاءَه، بل هم كلهم صائرون إلى ما خلقهم له، واقعون فيما قدَّر عليهم لا محالة، وهو عدْلٌ مِنْ ربنا عز وجل، فأراد الطاعة وشاءها ورضيها وأحبها وأمر بها. ولم يأمر بالمعصية، ولا أحبها ولا رضيها، بل قضى بها وقدّرها".
وقد اختلف العلماء في الفرق بين القضاء والقدر، وانقسموا في ذلك إلى فريقين: الفريق الأول: قالوا لا فرق بين القضاء والقدر، فكل واحد منهما في معنى الآخر، فإذا أُطْلِق أحدهما شمل الآخر، وهذا هو القول الراجح. الفريق الثاني: مَنْ فرَّق بين القضاء والقدر، وهؤلاء اختلفوا كثيراً في بيان هذا الفارق، وأحسن فارق أبدوه هو: أن القضاء اسم لما وقع، وما لم يقع بَعْد فهو القدر.. قال الشيخ ابن عثيمين: "القَدَرُ في اللغة بمعنى: التقدير، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}(القمر:49)، وقال تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ}(المرسلات:23). وأمَّا القَضاء فهو في اللغة: الحُكم، ولهذا نقول: إنَّ القَضاء والقَدَر متباينان (مختلفان) إنِ اجتَمَعا، ومترادفان إنْ تفَرَّقا، على حَدِّ قول العلماء: هما كلِمتان: إن اجتَمَعتا افترقَتا، وإن افتَرَقتا اجتَمَعتا. فإذا قيل: هذا قدَرُ الله، فهو شامِلٌ للقَضاء، أمَّا إذا ذُكِرا جميعًا فلكُلِّ واحدٍ منهما معنًى". وقد قيل هما بمعنى واحد، فمسألة الفرق بينهما يسيرة.

الإيمان بالقضاء والقدر:
الإيمان بالقضاء والقدر رُكْنٌ مِنْ أركان الإيمان، ولا يتم إيمان العبد إلا به. فقد روى مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سؤال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وتؤمن بالقدر خيره وشره).
والقرآن الكريم مليءٌ بِذِكْر القَدَر، والنصوص ـ مِن الكتاب والسُنة ـ المُخبرة عن قدرة الله، أوِ الآمرة بالإيمان بالقضاء والقدَر، كثيرة، ومِن ذلك:
1 ـ قال الله تعالى: {إِنا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}(القمر:49). قال الطبري: "يقول تعالى: إنا خلقنا كل شيء بمقدار قدرناه وقضيناه، وفي هذا بيان، أن الله جلّ ثناؤه، توعد هؤلاء المجرمين على تكذيبهم في القدر مع كفرهم به. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل".
2 ـ قال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا}(الأحزاب:38). قال ابن كثير: "ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمة السُنة على إثبات قدَر الله السابق لِخَلْقِه، وهو علمه الأشياء قبل كونها وكتابته لها قبل برئها، وردوا بهذه الآية وبما شاكلها من الآيات، وما ورد في معناها من الأحاديث الثابتات على الفرقة القدَرية (يقولوا: إن العبد مستقل بعمله، وليس لمشيئة الله تعالى وقدرته فيه أثر)".
3 ـ قال تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}(الفرقان:2). قال الطبري: "الذي له سلطان السماوات والأرض ينفذ في جميعها أمره وقضاؤه، ويمضي في كلها أحكامه".
4 ـ قال الله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}(الأعلى:3:1). قال السعدي: "{وَالَّذِي قَدَّرَ} تقديرًا، تتبعه جميع المُقَدَّرَات {فَهَدَى} إلى ذلك جميع المخلوقات. وهذه الهداية العامة، التي مضمونها أنه هدى كل مخلوق لمصلحته، وتذكر فيها نعمه الدنيوية".
5 ـ وعن طاووس قال: "أدركتُ ناساً مِنْ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر. قال: وَسَمِعْتُ عَبْدَ الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ شيءٍ بقَدَرٍ، حتَّى العَجْزِ (عَدم القُدرة) وَالْكَيْسِ (النَّشاط والحِذق بالأُمور)، أَوِ الكَيْسِ وَالْعَجْزِ) رواه مسلم. وفي هذا الحديث: ثُبوت قَدَرِ الله السَّابق لِخلْقِه، وهوَ عِلمه بالأشياء قبل كونها، وكِتابته لها.. قال القاضي عياض: "والعجز هنا يحتمل أن يكون على ظاهره، وهو عدم القدرة.. والكيس ضد العجز، وهو النشاط والحذق بالأمور ظاهرة. وإدخال مالك وأهل الصحيح له في كتاب القدَر دليل على أن المراد بالقدر هاهنا ما قدَّره تعالى وأراده مِنْ خَلْقِه، ومعناه أن العاجز قد قُدِّر عجْزُه، والكيس قد قُدِّر كيسه". وقال القرطبي: "ومعنى هذا الحديث: أن ما مِن شيء يقع في هذا الوجود كائناً كان إلا وقد سبق به علم الله تعالى ومشيئته".
6 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء مشركو قريش يخاصمون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في القدَر، فنزلت: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}(القمر:48:49). رواه مسلم. قال الصنعاني: "قوله: "(يخاصمون رسول الله في القدر) كأنهم ينكرون أن الله قدَّر المقادير، أو يقولون بعد التقدير السابق لا اختيار للعبد، وفي "الدر المنثور" من طريق جماعة من المحدثين عن زُرارة عنه صلى الله عليه وسلم إنه تلا هذه الآية قال: (نزلت في أناس من أمتي يكونون آخر الزمان يكذبون بالقدر)".
7 ـ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمنُ عبدٌ حتى يؤمنَ بالقدَرِ خيرِه وشرِّه، حتى يعلمَ أنَّ ما أصابه لم يَكن لِيخطِئَه، وأنَّ ما اخطأه لم يكن لِيُصيبَه) رواه الترمذي. قال الصنعاني: "الإيمان بالقدر يُذْهِب الهمّ والحزن عمن آمن به، لأنه يعلم أن كل ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فلا تهتم بآت، ولا تحزن على فائت". وقال ابن حجر: "وفي الحديث أن الأقدار غالبة، والعاقبة غائبة".
8 ـ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه سلم قال: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله، وأني مُحمد رسول الله بعثي بالحق، ويؤمن بالموت، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدَر) رواه الترمذي. قال الطيبي: "قوله: (لا يؤمن عبد) هذا نفي أصل الإيمان لا نفي الكمال، فمن لم يؤمن بواحد مِن هذه الأربعة لم يكن مؤمنا. أحدها: الإقرار بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، بعثه بالحق إلى كافة الجن والإنس. الثاني: أن يؤمن بالموت حتى يعتقد أن الدنيا وأهلها تفنى.. الثالث: أن يؤمن بالبعث بعد الموت. والرابع: أن يؤمن بالقدر، يعني يعتقد أن جميع ما في العالم بقضاء الله وقدَره".

النصوص الدالة على علم الله وقدرته ومشيئته وخَلقه، تدل على قدَرِهِ تبارك وتعالى، فالقدَر يتضمن الإيمان بعلم الله وقدرته ومشيئته.. فلله تعالى القدرة المطلقة، وقدرته لا يعجزها شيء، ومن أسمائه - تبارك وتعالى ـ "القادر، والقدير، والمُقتدر"، والقدرة صفة من صفاته. وقد ذكر الآجري في "الشريعة" وابن بطة في "الإبانة الكبرى": "قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: القدَر: قدرة الله عز وجل، فمَنْ كذَّب بالقدَر، فقد جحد قدرة الله عز وجل". وقد سُئِل الإمام أحمد عن القدَر: فقال: "القدَر قُدرة الله". قال ابن القيم: "وقال الإمام أحمد: القدرُ قدرة الله". وقال ـ ابن القيم ـ في نونيَّته عن قول الإمام أحمد "القدرُ قدرة الله":
فَحَقِيقَةُ الْقَدَرِ الَّذِي حَارَ الْوَرَى فِي شَأْنِهِ هُوَ قُدْرَةُ الرَّحْمَنِ
قَالَ الإِمَامُ شَفَى الْقُلُوبَ بِلَفْظَةٍ ذَاتِ اخْتِصَارٍ وَهْيَ ذَاتُ بَيَانِ
وقد أجمع أهل العلم على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر. قال النووي في شرحه لأحاديث القدَر من صحيح مسلم: "وفي هذه الأحاديث كلها دلالات ظاهرة لمذهب أهل السُنة في إثبات القدر، وأن جميع الواقعات بقضاء الله وقدره، خيرها وشرها، نفعها وضرها". وقال في موضع آخر: "تظاهرت الأدلة القطعيات مٍن الكتاب والسُنة وإجماع الصحابة وأهل الحِلِّ والعَقْد من السلف والخلف على إثبات قدَر الله سبحانه وتعالى". وقال ابن حجر في "فتح الباري": "مذهب السلف قاطبة أن الأمور كلَّها بتقدير الله تعالى، كما قال تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ}(الحجر:21)".
وللإمام الشافعي أبيات ذكر فيها القدر وما يتعلق به، وصفها ابن عبد البر بقوله: "ومِن شعره الذي لا يُختلف فيه وهو أصح شيء عنه، قوله:
ما شئتَ كان وإنْ لم أشأْ وما شئتُ إنْ لم تشأْ لم يكن
خلقتَ العبادَ على ما علمتَ ففي العلم يجري الفتى والمُسِن
على ذا مننتَ وهذا خذلتَ وهذا أعنتَ وذا لم تُعِنْ
فمنهم شقي ومنهم سعيد ومنهم قبيح ومنهم حَسن

فائدة:

ـ ضلَّ في القضاء والقدر طائفتان مِن الناس كلاهما على طرفي نقيض، الأولى: الجَبْرية التي تقول الإنسان مجبور على أفعاله، فليس له إرادة ولا اختيار في فعله، وهذا يعني: أن العبد غير مؤاخذ أو مُحاسَب على أفعاله، فغالت في إثبات القدَر فَضَلَّت. والطائفة الثانية: القدَرية: وهم الذين قالوا: إن العبد مستقل بعمله، وليس لمشيئة الله تعالى وقدرته فيه أثر فضلَّت هي الأخرى.. وأما أهل السُنة فالقضاء عندهم: هو عِلمُ الله السابق بالأشياء وكتابته لها، وأمَّا القدر فهو: وقوع هذه الأشياء وحصولها كما كتَبَ الله تعالى، وهذا ما دلَّتْ عليه الأدلة الكثيرة من القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.. قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" : "مذهب أهل السُّنَّة والجماعة في هذا الباب وغيره، ما دلَّ عليه الكتاب والسُّنَّة، وكان عليه السَّابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وهو أنَّ الله تعالى خالق كُلِّ شيءٍ وربُّه ومليكه، وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها وصفاتها القائمة بها من أفعال العباد وغير أفعال العباد، وأنَّه سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في الوجود شيءٌ إلا بمشيئته وقدرته، لا يمتنع عليه شيء شاءه بل هو قادر على كل شيء ولا يشاء شيئاً إلا وهو قادر عليه، وأنَّه سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، وقد دخل في ذلك أفعال العباد وغيرها، وقد قدَّر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم، قدَّر آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم وكتب ذلك، وكتب ما يصيرون إليه من سعادة وشقاوة".. إلى أن قال: "وسلف الأمَّة وأئمتها متفقون أيضاً على أن العباد مأمورون بما أمرهم الله به، منهيون عما نهاهم عنه، ومتفقون على الإيمان بوعده ووعيده الذي نطق به الكتاب والسُّنَّة، ومتفقون على أنَّه لا حجة لأحد على الله في واجب تركه، ولا محرَّم فعله، بل لله الحُجَّة البالغة على خلقه".
ـ ومِن الضالين في القدَر: أهل المعاصي الذين يحتجُّون بالقدر في تبرير معاصيهم ومُنْكَراتهم، فساء فعلُهم وقولهم هذا، إذ تشبَّهوا بالكفار مِنْ قَبْلِهم، الذين كانوا يحتجُّون بالقدر في كُفْرهم، قال الله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا}(الأنعام:148). قال ابن كثير: "{كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} أي: بهذه الشبهة ضلَّ مَنْ ضل قبل هؤلاء. وهي حجة داحضة باطلة، لأنها لو كانت صحيحة لمَا أذاقهم الله بأسه، ودمر عليهم، وأذاق المشركين من أليم الانتقام"..
ـ ومِن الذين ضلوا في القَدَر: المتواكِلُون الذين يقولون: إنَّ أعمالنا كلَّها مُقَدَّرة، ويقعدون أو يتكاسلون عن الأخذ بالأسباب، وهؤلاء يُقال لهم: الإيمان بالقَدَر مأمور به، والأخذ بالأسباب مأمورٌ به كذلك، بل هو من قَدَر الله عز وجل، وهذا ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لئلاَّ يتوكلوا ويتركوا العمل والأخذ بالأسباب.. ولَمَّا سُئِل النبي صلى الله عليه وسلَّم عن الرُّقَى والأدوية في العلاج: (هل تَرُدُّ من قَدَر الله شيئًا؟ فأخبرهم أنها مِن قَدَر الله).. ولذلك لما اعترض أبو عبيدة عامر بن الجرَّاح رضِي الله عنه على رجوع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالناس عن دخول الشام عندما انتشر بها الطاعون، وقال لعمر: "يا أمير المؤمنين، أفِرارًا مِنْ قدَر الله؟! فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم، نَفِرُّ من قَدَرِ الله إلى قَدَرِ الله) رواه البخاري. ولَمَّا سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرُّقَى والأدوية في العلاج: (هَل تردُّ مِن قدرِ اللَّهِ شيئًا؟! قال: هيَ أيضا مِن قدرِ اللَّه).

الإيمانُ بالقضاء والقَدَرِ أحَد أصول وأركان الإيمان، وللإيمان بالقضاء والقدر ثمرات كثيرة مِنْ أهمها: زيادة الإيمان بالله عز وجل، وطمأنينة النفس، وثبات القلب، والقناعة والرضا، وترك الحسد، والشجاعة بحكمة، والصبر والثبات عند الشدائد.. ولا ينبغي الخوض في القدَر والتعمق فيه، لأن الخوض في القدر والتعمق فيه أمر ربما يؤدي بصاحبه إلى الوقوع في الكفر وخسارة دنياه وأخراه. عن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإذا ذُكِر القدر فأمسكوا) رواه الطبراني. والمنهي عنه في هذه الأحاديث هو الخوض فيها بالباطل والظن. قال ابن تيمية: "الخوض في ذلك - أي في القضاء والقدر - بغير علم تام، أوجب ضلال عامة الأمم، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التنازع فيه".. فالواجب الإيمان بالقضاء والقدر، والتسليم لله تعالى، واعتقاد أنه الحكيم العليم في شرعه وقدره، والعمل بطاعته، والمسارعة إلى مرضاته..

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة