الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

إسحاق بن راهويه.. إمام أهل المشرق

إسحاق بن راهويه.. إمام أهل المشرق

 إسحاق بن راهويه.. إمام أهل المشرق

هو الإمام الكبير، شيخ المشرق، أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم بن عبد الله بن مطر التميمي ثم الحنظلي المروزي، نزيل نيسابور، سيد الحفاظ. روى له البخاري ومسلم في الصحيحين، وأبو داود والنسائي في سننهما.

كان رحمه الله أحد أئمة المسلمين، وعلماء الدين، اجتمع له الحديث والفقه، والحفظ والصدق، والورع والزهد، وهو صاحب مذهب من المذاهب المندثرة.
أما عن قولهم ابن راهويه؛ فقد سأله الأمير عبد الله بن طاهر: لم قيل لك ابن راهويه؟ وما معنى هذا؟ وهل تكره أن يقال لك ذلك؟ قال: اعلم أيها الأمير أن أبي ولد في طريق مكة، فقالت المراوزة: راهويه؛ لأنه ولد في الطريق، وكان أبي يكره هذا. وأما أنا، فلا أكرهه.

مولده ونشأته
ولد في سنة إحدى وستين ومائة بخراسان، وبدأ في طلب العلم على أيدي علمائها وسمع من شيخ شيوخها شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك، قال الذهبي في السير: فما أقدم على الرواية عنه - لكونه كان مبتدئا - لم يتقن الأخذ عنه.

رحلته وشيوخه
ارتحل لطلب الحديث والعلم في سنة أربع وثمانين ومائة، وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، ولقي الكبار، وكتب عن خلق من أتباع التابعين.
وسمع الكثير من أهل العلم وتلقى عن الأكابر المشاهير، فسمع من الفضيل بن عياض، ومعتمر بن سليمان التيمي، وسفيان بن عيينة، وجرير بن عبد الحميد، وإسماعيل ابن علية، ووكيع بن الجراح، ويزيد ابن هارون، ويحيى بن سعيد القطان، وأبي بكر بن عياش، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الرزاق بن همام الصنعاني، وأبي معاوية الضرير، وعبد الله بن وهب، ومحمد بن جعفر "غندر"، والوليد بن مسلم، وبقية بن الوليد، وحفص بن غياث، وعبد الله بن إدريس، والنضر بن شميل، وأمم سواهم بخراسان والعراق والحجاز واليمن والشام.

تلاميذه ومن روى عنه
وكما حدث إسحاق عن الكبار وحمل عنهم وسمع منهم، فكذلك أخذ عنه الأكابر وأساطين المحدثين، فحدث عنه: بقية بن الوليد ، ويحيى بن آدم، وهما من شيوخه، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وهما من أقرانه، وإسحاق بن منصور، ومحمد بن يحيى الذهلي، ومحمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج في "صحيحيهما"، وأبو داود والنسائي في "سننهما"، وأحمد بن سلمة، وموسى بن هارون، ومحمد بن نصر المروزي، وداود بن علي الظاهري، وجعفر الفريابي، وأبو العباس السراج خاتمة أصحابه، وخلق كثير سواهم.

حفظه ومؤلفاته
كان إسحاق من الأئمة الحفاظ والمتقنين الأثبات، ولشدة حفظه وتثبته أملى المسند والتفسير من حفظه، وما كان يُحدث إلا حفظاً.
قال النسائي: «إسحاق ثقة مأمون إمام». وقال الحاكم أبو عبد الله صاحب المستدرك: "إسحاق بن راهويه إمام عصره في الحفظ والفتوى".
قال أبو داود الخفاف: «سمعت إسحاق بن راهويه يقول: كأني أنظر إلى مائة ألف حديث في كتبي، وثلاثين ألفا أسردها، قال: وأملى علينا إسحاق من حفظه أحد عشر ألف حديث ثم قرأها علينا فما زاد حرفا ولا نقص حرفا».
قال إسحاق : "كتب عني يحيى بن آدم ألفي حديث". ويحيى بن آدم هو شيخ إسحاق، وشيخ البخاري رضي الله عنهم أجمعين.
قال قتيبة بن سعيد: "الحفاظ بخراسان: إسحاق بن راهويه، ثم عبدالله الدارمي، ثم محمد بن إسماعيل" يعني البخاري، رحمهم الله.
وقد وسمه ابن معين بأمير المؤمنين في الحديث.. قال إسحاق: سألني يحيى بن معين، عن حديث فحدثته به، فقال له رجل: يا أبا زكريا، رواه وكيع بخلاف هذا. فقال : اسكت! إذا حدثك أبو يعقوب أمير المؤمنين فتشك فيه؟

مؤلفاته
وبعد هذا الحفظ والعلم والفضل كان لابد أن يدلي بدلوه في التأليف، فكان له من المصنفات:
المُسْند "مسند إسحاق"، وله "التفسير الكبير"، وقد أملى المسند والتفسير من حفظه، وما كان يُحدث إلا حفظاً. وله أيضا "المصنف"، و"الجامع الكبير"، و"الجامع الصغير".

اتباعه للسنة
كان إسحاق سليم العقيدة، محمود الطريقة، متبعا للآثار، مسلِّما للأحاديث والسنة والأخبار، وكان رأسا في نشرها، حربا على أهل البدع:
فعن وهب بن جرير قال: "جزى الله إسحاق بن راهويه، وصدقة بن الفضل، ومعمر عن الإسلام خيراً؛ أحيَوا السنة بالمشرق".

وقال حرب الكرماني: "قلت لإسحاق: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7]، كيف تقول فيه؟ قال: حيثما كنتَ فهو أقربُ إليك من حبل الوريد، وهو بائنٌ من خلقه، وأبينُ شيء في ذلك قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طـه:5].

وقال سليمان بن داود الخفاف: "قال إسحاق بن راهويه: إجماعُ أهل العلم أنه –تعالى– على العرش استوى، ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة".
وقال أحمد بن سلمة: "سمع إسحاق الحنظلي يقول: ليس بين أهل العلم اختلاف أن القرآن كلام الله، ليس بمخلوق، وكيف يكون شيءٌ خرج من الرب – عزوجل– مخلوقاً؟".

ثناء الناس عليه
أثنى الأئمة الفقهاء والسادة العلماء وأكابر الحفاظ وأهل الفضل على إسحاق بما يدل على مكانه وعلمه وفضله.. قال فيه الخطيب البغدادي: «اجتمع له الحديث والفقه والحفظ والصدق والورع والزهد، ورحل إلى العراق والحجاز والشام واليمن».
قال أحمد بن حنبل «لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق». قال حنبل: "سمعت أبا عبدالله وسُئل عن إسحاق بن راهويه فقال: مثلُ إسحاق يُسأل عنه؟! إسحاقُ عندنا إمام". وقال أيضا: "لا أعرف لإسحاقَ في الدنيا نظيراً".
قال الشافعيُّ: "ابن راهويه أحد الأئمة، ثقة مأمون، سمعت سعيد بن ذؤيب يقول: لا أعلم على وجه الأرض مثلَ إسحاق".
قال نعيم بن حماد: «إذا رأيت الخراساني يتكلم في إسحاق بن راهويه فاتهمه في دينه».
قال الدارمي: «ساد إسحاق أهل المشرق والمغرب بصدقه».
وعن محمد بن يحيى الصفار ، قال : لو كان الحسن البصري في الأحياء ، لاحتاج إلى إسحاق في أشياء كثيرة. وسئل عنه يحيى بن يحيى، فقال: "ليوم من إسحاق أحب إلي من عمري".
وقال ابن القيم: «كان إسحاق رأس أهل زمانه في العلم والحديث والتفسير والسنة والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وكسر الجهمية، وأهل البدع ببلاد خراسان، وهو الذي نشر السنة في بلاد خراسان».

وفاته
توفي إسحاق بن راهويه في ليلة النصف من شعبان، سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وله سبع وسبعون سنة.
ولما مات قال محمد بن الطوسيِّ: "ما أعلم أحداً كان أخشى لله من إسحاق". وقال عليُّ بن حجر: "لم يخلف إسحاقَ ـ يوم فارق الدنيا ـ مثلُه بخراسان علماً وفقهاً".
فرحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.
بيَّضَ اللهُ وجـهـه ووقـــاهُ .. .. فزعاً يـومَ قمطريرٍ وهـولَه
وأثاب الفردوس من قال آمين .. .. وأعطاه يوم يلقاه سؤله

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة