الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

شواهد الشورى في السنة النبوية

شواهد الشورى في السنة النبوية

شواهد الشورى في السنة النبوية

الشورى مبدأ من أهم مبادئ السياسة الشرعية، يقوم عليه بناء الدولة وشكلها وسياستها، وينبني عليه أداء السلطة وقراراتها، وقد جاء في القرآن مجملا، سواء الأمر به، أو وصف المؤمنين به، ولكنه في السنة ورد مفصلا، ووقائعه كثيرة في السنة النبوية، ومن خلال تلك الشواهد تتضح معالم الشورى، وتتبين مجالاتها، وآثارها.
شواهد الشورى في السنة النبوية:
ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مؤيدا بالوحي، وكان لا ينفك يشاور أصحابه، ويطلب رأيهم ومشورتهم، وكأنه يؤسس بناءهم السياسي والاجتماعي على الشورى، وينظف نفوسهم من سطوة الاستبداد، وطغيان أحادية الرأي والقرار، فتأسس تفكيرهم على ذلك المنهج.
الموقف الأول: مشاورة أصحابه في أسرى بدر:
حين وقع بعض المشركين أسرى في أيدي المسلمين، ولم يكن أمرهم محسوما بنص قاطع، حينها استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في شأنهم، هل يقتلون أو تقبل منهم الفدية؟ ففي صحيح مسلم قال ابن عباس: فلما أسروا الأسارى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: «ما ترون في هؤلاء الأسارى؟» فقال أبو بكر: يا نبي الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ترى يا ابن الخطاب؟» قلت: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكني من فلان نسيبا لعمر، فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، فلما كان من الغد جئت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: يا رسول الله، أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة » - شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله عز وجل: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} [الأنفال: 67] إلى قوله {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا} [الأنفال: 69].
الموقف الثاني: المشاورة يوم أحد في الخروج أو الانتظار والقتال داخل المدينة:
حين أرادت قريش الانتقام مما حصل لهم يوم أحد، شاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في الخروج لقتالهم خارج المدينة بخطة هجومية، أم البقاء داخل المدينة والقتال بخطة دفاعية، وكان يميل إلى الرأي الثاني، فلما رأى حماس الشباب للخروج مضى على رأيهم، ففي سنن النسائي عن جابر بن عبد الله، قال: استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم أحد فقال: «إني رأيت فيما يرى النائم كأني لَفِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ وكأن بقرا تُنحر وتباع ففسَّرتُ الدرع المدينة، وَالْبَقَرَ نَفَرًا وَاللهُ خَيْرٌ، فلو قاتلتموهم في السِّكَكِ فرماهم النساء من فوق الحيطان» قالوا: فيدخلون علينا المدينة، ما دُخِلَتْ علينا قط ولكن نخرج إليهم قال: «فشأنكم إذا» قال: ثم ندموا فقالوا: رددنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيه فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، رأيك فقال: «ما كان لنبي أن يلبس لأمته ثم يضعها حتى يقاتل».
الموقف الثالث: مشاورته قادة الأنصار في مصالحة قبيلة غطفان:
فقد طرح عليهم ما طلبته غطفان من الانسحاب من جيش الأحزاب الذي يحاصر المدينة يومذاك مقابل نصف تمر المدينة، كما في المعجم الكبير للطبراني عن أبي هريرة قال: جاء الحارث الغطفاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، شاطرنا تمر المدينة، قال: «حتى أَسْتَأْمِرَ السُّعُودَ» ، فبعث إلى سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وسعد بن الربيع، وسعد بن خيثمة، وسعد بن مسعود، رحمهم الله، فقال: «إني قد علمت أن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وإن الحارث يسألكم أن تشاطروه تمر المدينة، فإن أردتم أن تدفعوا إليه عامكم هذا، حتى تنظروا في أمركم بعد» ، قالوا: يا رسول الله، أَوَحْيٌ من السماء، فالتسليم لأمر الله، أو عن رأيك، أو هواك، فرأينا تبع لهواك ورأيك، فإن كنت إنما تريد الإبقاء علينا، فوالله لقد رأيتنا وإياهم على سواء ما ينالون منا تمرة إلا بِشِرًى، أَوْ قِرًى.
الموقف الرابع: مشاورته لأصحابه يوم الحديبية:
ففي صحيح البخاري عن المسور بن مخرمة، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً من أصحابه، فلما أتى ذا الحُلَيْفَةِ، قلَّد الهدي وأشْعَرَه وأحرم منها بعمرة، وبعث عَيْناً له من خزاعة، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان بغدير الأَشْطَاطِ أتاه عيْنُهُ، قال: إن قريشا جمعوا لك جموعا، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت، ومانعوك، فقال: «أشيروا أيها الناس عليَّ، أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله عز وجل قد قطع عينا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين»، قال أبو بكر: يا رسول الله، خرجتَ عامداً لهذا البيت، لا تريد قتل أحد، ولا حرب أحد، فتوجَّهْ له، فمن صدنا عنه قاتلناه. قال: «امضوا على اسم الله».
والملاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشاور في كل موقف بحسبه، فقد يشاور الجميع إذا كان الشأن عاماً كما في الخروج للقتال يوم أحد، ويوم الحديبية في الإغارة على حلفاء قريش وذراريهم، وقد يستشير استشارة خاصة كما في استشارته للأنصار بشأن قتال قريش يوم بدر؛ لما نقل ابن حجر عن ابن إسحاق قوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يتخوف من الأنصار أن لا يوافقوه، لأنهم لم يبايعوه إلا على نصرته ممن يقصده داخل المدينة لا أن يسير بهم إلى العدو".
وفي مصالحة غطفان استشار قادة الأنصار الذين ينوبون عن عامتهم؛ لأن الأرض أرضهم، والأملاك لهم، بينما المهاجرون جاءوا لا ملك لهم ولا زرع في المدينة.

وقد حصل منه المشاورة وهو أسدُّ الناس رأياً، وأكملهم عقلاً، فغيره من باب أولى أن يأخذ بهذا المبدأ حتى على مستوى تصريف أمور العائلة، وتتوجب المشاورة إذا كان الأمر يتعلق بشأن عام، ولا سيما بعض القرارات المصيرية، والاتفاقيات التي ينشأ عنها التزامات على المجموع، فلا يغتفر فيها الاستبداد بالرأي، لأن الإنسان حينها لا يتصرف لنفسه، بل يتصرف للعموم، وتصرفه للعموم منوط بالمصلحة، والعقل الواحد قاصر عن إدراك وجه المصلحة، فكان لا بد من اجتماع الرأي، والاستعانة بأهل العلم والخبرة، حتى يكون القرار جماعيا، إما بالمباشرة أو النيابة.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة