الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

محاربة السلوكيات البيئية الخاطئة في التعامل مع الثروة المائية في السنة النبوية

محاربة السلوكيات البيئية الخاطئة في التعامل مع الثروة المائية في السنة النبوية

 محاربة السلوكيات البيئية الخاطئة في التعامل مع الثروة المائية في السنة النبوية


حين نتأمل السنة النبوية نجد مجموعة من النواهي والمكروهات التي ترمي إلى محاربة الظواهر السلبية في التعامل مع البيئة، وذلك من أجل حماية عناصر البيئة، والمحافظة على المرافق العامة، والمشتركات الطبيعية التي تقوم عليها مصالح البشر.

معالم أساسية للتعامل مع البيئة:
قبل الشروع في بيان النصوص التي توجه سلوك الإنسان في التعامل مع البيئة المائية لا بد من ذكر بعض المنطلقات الواضحة التي وردت في السنة النبوية للتعامل مع عناصر الكون والبيئة بشكل عام، فالمسلم يتعامل من خلالها، ووفق مدلولاتها ومقاصدها.
ومن تلك المنطلقات والمعالم، الوعي بحقيقة الوجود الإنساني على هذه الدنيا وما أودع الله فيها من عوالم ومكوَّنات، وأنه قائم على أساس الاستخلاف والتسخير الرباني، وهذا واضح من خلال نصوص كثيرة، منها ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون».
فهذا النص النبوي منهج عام للتعامل مع الكون وما فيه على أن الإنسان مستخلف فيه، وأن الله ينظر في تصرفاته، وابتكاراته ومخترعاته على هذا الكون، فالإنسان لا يعتبر المالك المطلق لهذه المقدرات، فلا يتصرف بأنانية الذات، ولا يسخر عناصر البيئة في إنتاج ما يضر بها ويعكر العيش فيها؛ لأنه يعلم أن الكون مسخر له ولمن يشترك معه فيه، ولمن سيأتي بعده، فالخلق يخلف بعضهم بعضا، وتبقى الأرض وما فيها مُسَخَّرة للأجيال وفق مراد الله تعالى من هذا الوجود الإنساني عليها.
ومن النصوص النبوية التي تعتبر منطلقا أساسيا للتعامل مع البيئة ومكوناتها، ما رواه ابن ماجة عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء، والكلإِ، والنار، وثمنه حرام».
فالعيش المشترك يفرض على الناس الاشتراك في مصالح عامة، ولا سيما أساسيات العيش كالعناصر المذكورة، وتتجدد في حياة الناس مشتركات كثيرة، ومرافق عامة يلتزم الجميع باحترام تلك الشراكة، من المحافظة عليها، وتنميتها، وتطويرها.
ومن وصايا أبي بكر الخليفة الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد أمراء جيشه الذي أرسله إلى الشام: «لَا تَقْتُلَنَّ امْرأَةً، وَلَا صَبِيًّا، وَلَا كَبِيرًا هَرِمًا، وَلَا تَقْطَعَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا، وَلَا تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا، وَلَا تَعْقِرَنَّ شَاةً، وَلَا بَعِيرًا، إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ، وَلَا تَحْرِقَنَّ نَحْلًا، وَلَا تُغَرِّقَنَّهُ، وَلَا تَغْلُلْ وَلَا تَجْبُنْ».
ففيه التحذير البالغ من العبث بعناصر البيئة، وإفسادها، والاعتداء عليها، فهي مخلوقة لمصلحة البشر.
ومن المعالم التي تنظم السلوك الإنساني في التعامل مع البيئة النهي العام عن التصرفات الضارة ابتداء ومقابلة، فهذا أصل عام في الشريعة يندرج فيه شواهد النهي عن الإضرار بالبيئة حديث النهي عن الضرر، وهي قاعدة عظيمة من القواعد الكبرى في الشريعة.
ففي سنن ابن ماجة عن عبادة بن الصامت، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قضى أن لا ضرر ولا ضرار».
فكثير من السلوكيات السلبية التي تلحق أضرارا بالبيئة منهي عنها بهذا النص العام الذي يندرج فيه كل التصرفات البيئية الخاطئة.
ولو نظرنا التوجيهات النبوية في باب المياه على سبيل المثال لوجدنا جملة من النصوص التي تؤصل لثقافة بيئية عالية، لا سيما إذا نظرنا إليها وفق رؤية مقاصدية لا تتوقف عند الأحكام الجزئية، بل نتفهم تلك النصوص في ضوء غاياتها العالية التي ترمي إليها.
أولا: النهي عن اغتسال الجنب في الماء الدائم:
ورد ذلك في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب» فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة، قال: «يتناوله تناولا».
فهذا السلوك وإن كان لا ينجس الماء ولكنه يحصل به تقذيره، وربما تغير رائحة الماء، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا السلوك الذي يتعامل مع أهم عناصر البيئة وهو الماء بهذا التصرف السلبي.
ثانيا: النهي عن البول في الماء الراكد:
من النواهي النبوية المتعلقة بالسلوكيات السلبية التي قد تحصل من البعض: البول في الماء الراكد كالمسابح، والبرك، وأماكن تجمع المياه الصالحة للاستعمال، حفاظا على المياه من تنجيسها أو تقذيرها، ففي حديث جابر: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه نهى أن يُبالَ في الماء الراكد» والعلة في النهي إن كان الماء قليلا تنجيسه، كما قال النووي في شرح مسلم: والمختار أنه يحرم لأنه يقذره وينجسه على المشهور من مذهب الشافعي وغيره ويغر غيره فيستعمله مع أنه نجس.
ثالثا: النهي عن الاستنجاء بمطعوم أو محترم:
الاستنجاء مشروع لقطع الخارج وتنظيف المحل لكن لا يكون مشروعا إذا فعله الإنسان ببعض العناصر التي هي محل منفعة للغير، لما روى مسلم «أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الاستنجاء بالعظم وقال: إنه زاد إخوانكم» يعني من الجن، فمطعوم الآدمي أولى.
فهذا النهي يتعلق بأحد عناصر البيئة؛ لما فيه من مصلحة متعلقة بمخلوقات أخرى، فيكون التصرف منهيا عنه لأنه يفوت منفعة الغير، ولذلك ينص الفقهاء على أن المتوضئ لو احتاج إلى الماء للشرب سواء لنفسه أو لإنسان مثله أو لحيوان محترم فغرض الشرب مقدم على الوضوء مع كونه عبادة متعلقة بفريضة الصلاة، وهذا يعزز أهمية الثروة المائية في المنظومة البيئية، ومراعاة أغراضها وفق الاحتياج البشري وأولويات المصلحة الإنسانية.
رابعا: النهي عن الزيادة على الغسلات الثلاث في الوضوء:
ففي السنن عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا رسول الله كيف الطهور؟ فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثا، ثم غسل وجهه ثلاثا، ثم غسل ذراعيه ثلاثا، ثم مسح برأسه فأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه، وبالسباحتين باطن أذنيه، ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا» ، ثم قال: «هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم - أو ظلم وأساء -»
والنهي وإن كان محمولا على التعبد، لكن الفقهاء ينصون على أن محل الكراهة فيما لو توضأ بماء مملوك له، لكن لو توضأ بمال موقوف على الوضوء فإنه يحرم الزيادة على ثلاث؛ لما فيه من الإهدار ومخالفة غرض الواقف، وفي هذا معنى المحافظة على المياه ما أمكن، حتى في الاستعمال التعبدي.
خامسا: النهي عن تقذير الماء وتلويثه:
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض التصرفات التي تؤول إلى تقذير الماء وتفويت حق الآخرين في استعماله، كالتنفس في إناء الشرب.
فقد أخرج الترمذي من حديث أبي سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن النفخ في الشراب فقال رجل: القذاة أراها في الإناء، فقال: أهرقها، قال: فإني لا أروى من نفس واحد، قال: فأبن القدح عن فيك ثم تنفس».
قال النووي في شرح مسلم: معناه لا يتنفس في نفس الإناء وأما التنفس ثلاثا خارج الإناء فسنة معروفة قال العلماء والنهي عن التنفس في الإناء هو من طريق الأدب مخافة من تقذيره ونتنه وسقوط شئ من الفم والأنف فيه ونحو ذلك والله أعلم.
ولذلك ندب إلى الشرب ثلاث مرات لذات المعنى كما في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا تشربوا واحدا أي شربا واحدا كشرب البعير، ولكن اشربوا مثنى وثلاث وسموا إذا أنتم شربتم، واحمدوا إذا أنتم رفعتم».
وورد النهي عن الشرب من فم السقاء لذات المعنى، وذلك فيما روى الشيخان من حديث ابن عباس: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشرب من فم السقاء».
وأخرجا أيضا من حديث أبي سعيد قال «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اختناث الأسقية» زاد في رواية: «واختناثها أن يقلب رأسها ثم يشرب منه».
ونهي المتوضئ الذي قام من النوم أن يغمس يده في إناء الوضوء؛ حتى لا يتنجس الماء ببعض ما لاقته يده من النجاسة، أو ينتقل الماء من الطهورية إلى الطاهرية على أقل تقدير، وذلك من المحافظة على ثروة الماء من الإهدار، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا، فإنه لا يدري أين باتت يده».
فكل هذه السلوكيات وغيرها تؤدي إلى تلويث الماء وإهداره، ويدخل فيها ما في معناها مما تشترك مع المنصوص عليه في نفس العلة، من التصرفات التي تخرج الماء عن صلاحيته للغرض الذي وضع له، من خلال سلوكيات خاطئة.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة