
مِنْ أعظم نِعَم الله عز وجل علينا وعلى البشرية بعثة نبينا مُحمد صلى الله عليه وسلم الذي قال الله تعالى عنه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(الأنبياء:107). قال ابن كثير: "يخبر تعالى أن الله جعل مُحمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، أي: أرسله رحمة لهم كلهم، فمَنْ قَبِل هذه الرحمة وشكر هذه النعمة، سعد في الدنيا والآخرة، ومَنْ ردَّها وجحدها خسر في الدنيا والآخرة". وقال سبحانه: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(التوبة:128). قال ابن كثير: "قوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّم} أي: يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها، {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أي: على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم". وقال السعدي: "{حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} فيحب لكم الخير، ويسعى جهده في إيصاله إليكم، ويحرص على هدايتكم إلى الإيمان، ويكره لكم الشر، ويسعى جهده في تنفيركم عنه. {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} أي: شديد الرأفة والرحمة بهم، أرحم بهم مِنْ والديهم". وقال ابن تيمية في "الجواب الصحيح": "وَمَنِ اسْتَقْرَأ أَحْوَال العَالَم تَبَيَّن له أَنَّ اللَّه لمْ يُنْعِمْ على أَهْل الْأرض نِعْمَةً أَعْظَم مِنْ إِنْعَامِه بِإِرْساله صلى اللَّه عليه وسلم، وَإِنَّ الذين رَدُّوا رِسالتَه هُم مَنْ قال اللَّه فيهم: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ}(إبراهيم:28)"..
والله تبارك وتعالى مِنْ فضله أنْ جعل لِكُلِّ نبيٍّ دعوة مُسْتجابة، وكُلٌّ مِنَ الأنبياء والرُسُل تَعَجَّل دعوتَه في الدنيا، واختبأ وادَّخَر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم دعوتَه شفاعةً لأمّته يوم القيامة. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختبيء دعوتي شفاعةً لأمتي في الآخرة) رواه البخاري. وفي رواية لمسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لِكُلِّ نَبِيٍّ دعوة مُسْتَجابة، فتعجَّل كل نبي دعوتَه، وإني اختبأتُ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله تعالى مَنْ مات مِنْ أمتي لا يشرك بالله شيئاً).
قال الكرماني: "(أختبيء) أي أدخر وأجعلها خبيئة ومعناه لكل نبي دعوة مجابة ألبتة (قطعا)، وهو على يقين مِنْ إجابتها، وأما باقي دعواتهم فهو على رجاء إجابتها وبعضها يُجاب وبعضها لا يُجاب". وقال النووي: "وفي هذا الحديث بيان كمال شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ورأفته بهم واعتنائه بالنظر في مصالحهم المهمة، فأخَّرَ النبّيُّ صلى الله عليه وسلم دعوته لأمته إلى أهم أوقات حاجاتهم، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (فهي نائِلة إن شاء الله تعالى مَنْ مات مِنْ أمتي لا يشرك بالله شيئا) ففيه دلالة لمذهب أهل الحق أن كل مَنْ مات غير مشرك بالله تعالى لم يخلد في النار وإنْ كان مُصرا على الكبائر، وقد تقدمت دلائله وبيانه في مواضع كثيرة. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنْ شاء الله تعالى) هو على جهة التبرك والامتثال لقول الله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}(الكهف:23:24)".
الشفاعة العظمى:
عندما يشتد البلاء بالناس في الموقف العظيم يوم القيامة، ويطول عليهم زمن وقوفهم مع ما يعانونه مِنَ الحَرِّ والأهوال والشدائد، يبحث العِباد عن أصحاب المنازل العالية مِنَ الأنبياء والرُسل ليشفعوا لهم عند الله تعالى ليُفَرِّج عنهم ما هم فيه مِنَ البلاء والكُرُبات، فيأتون آدم عليه الصلاة والسلام فيعتذر، فيأتون إبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام واحداً بعد الآخَر فيعتذرون، فيأتون إلى نبينا مُحَمّد صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها، أنا لها)، فيشفع لهم، وهذه هي الشفاعة العظمى الخاصة بنبينا صلوات الله وسلامه عليه التي لا يشاركه فيها أحَدٌ مِنَ الخَلْق، وهي من المقام المحمود الذي وعده الله تعالى إياه به في قوله سبحانه: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}(الإسراء:79). قال ابن كثير: "أي: افعل هذا الذي أمرتك به، لنقيمك يوم القيامة مقاما يحسدك فيه الخلائق كلهم.. قال ابن جرير: قال أكثر أهل التأويل: ذلك هو المقام الذي يقومه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس، ليريحهم ربهم مِنْ عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم.. وقال ابن عباس: هذا المقام المحمود مقام الشفاعة، وكذا قال ابن أبي نجيح، عن مجاهد، وقاله الحسن البصري. وقال قتادة: هو أول مَنْ تنشق عنه الأرض، وأول شافع، وكان أهل العلم يرون أنه المقام المحمود الذي قال الله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}، قلتُ: لِرَسولِ الله صلى الله عليه وسلم تشريفات يوم القيامة تشريفات لا يُشركه ولا يساويه فيها أحَد، فهو أول مَنْ تنشق عنه الأرض، ويبعث راكبا إلى المحشر، وله اللواء الذي آدم فمن دونه تحت لوائه، وله الحوض الذي ليس في الموقف أكثر واردا منه، وله الشفاعة العظمى عند الله ليأتي لفصل القضاء بين الخلائق، وذلك بعدما يسأل الناس آدم ثم نوحا، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، فكل يقول: "لستُ لها" حتى يأتوا إلى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فيقول: "أنا لها، أنا لها". وقال الطبري: "قالوا: عسى ولعلّ مِنَ الله واجبة.. ثم اختلف أهل التأويل في معنى ذلك المقام المحمود، فقال أكثر أهل العلم: ذلك هو المقام الذي هو يقومه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدّة ذلك اليوم".
وعن آدَم بْن علِيٍّ قال: سَمِعْتُ ابْن عمر رضي الله عنه يقول: (إِنَّ النَّاس يصِيرون يَوْم القيامة جُثًا (جماعات جلوسا على الرُكَب)، كل أمة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان اشفع، يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود) رواه البخاري. وفي "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري": "والمقام المحمود الذي وعده الله به، هو مقام الشفاعة العظمى يوم القيامة، ووعْد الله لا يتخلف"..
والأدلة الواردة في شأن الشفاعة العُظمى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بلغت حد التواتر لفظاً ومعنى كما قال القاضي عِياض والسيوطي وغيرهما.. قال الإسفراييني: "وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم بلغت مبلغ التواتر وانعقد عليها إجماع أهل الحق منَ السلف الصالح.. وهذه الشفاعة العُظمى مُجْمَعٌ عليها لم يُنكرها أحَدٌ ممن يقول بالحَشْر". وقال ابن خُزيمة في "التوحيد": "(بابُ ذِكْرِ الشفاعة التي خَصَّ اللهُ بها النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأنبياء صلوات الله عليهم ودون سائِر المُؤمِنين، وهيَ الشَّفاعة الأولى التي يَشفَع بها لأمَّتِه، ليُخَلِّصَهمُ اللهُ من المَوقِف الذي قد جُمِعوا فيه يَوم القيامة.. وقد دَنتِ الشَّمسُ منهم، فآذَتْهم وأصابَهم مِنَ الغَمِّ والكَرب ما لا يطيقون، ولا يَحْتملون، وهذه الشفاعة هي سِوى الشَّفاعة التي يَشفَع النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بَعدُ لإخراج مَنْ قد أُدخِلَ النَّارَ مِنْ أمَّتِه، بما قَدِ ارتكبوا من الذُّنوب والخطايا في الدنيا، التي لَم يَشَأِ اللهُ أن يَعفو عنها ويَغفِرها لهم، تَفَضُّلًا وكَرمًا وجُودًا". وقال أبو عثمان الصَّابونيّ في "عقيدة السلف وأصحاب الحديث": "يؤمِن أهلُ الدِّين والسُّنَّة بشفاعة الرَّسول صلى الله عليه وسلم لمُذنِبي التَّوحيد، ومُرتَكِبي الكَبائر، كما ورَد به الخَبَر الصَّحيح عن رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم". وقال عبد الغَنيّ المَقدِسيّ في "الاقتصاد في الاعتقاد": "يَعتَقِدُ أهلُ السُّنَّة ويُؤمِنون أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَشفع يوم القيامة لأهل الجَمع كُلِّهم شفاعة عامَّة، ويَشفَع في المُذنِبين من أمَّتِه فيُخرِجُهم من النَّارِ بَعد ما احتَرَقوا".
حديث الشفاعة العُظْمَى:
عن مَعبد بن هِلالٍ العَنزيّ قال: (اجتمعَ رهطٌ (جماعة إلى العشرة ليس فيهم امرأة) مِنْ أهل البصرة وأنا فيهم، فأتينا أنسَ بن مالكٍ واستشفعنا عليه بثابتِ البُنَانِيّ (أخصّ تلاميذ أنس)، فدخلنا عليهِ فأجلسَ ثابتاً معه على السرير، فقلتُ: لا تسألوه عن شيء غيرِ هذا الحديث (أي: حديث الشفاعة)، فقال ثابتٌ: يا أبا حمزة (كُنْيَة أنَس) إخوانك مِنْ أهلِ البصرة جاءوا يسألونك عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشفاعة، فقال أنس رضي الله عنه: حدثنا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان يوم القيامة ماجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إلى بعْض (اضطَربوا من هَولِ يوم القيامة)، فيأتون آدم فيقولون له: اشْفَعْ لِذُرِّيَّتِك، فيقول: لسْتُ لها، ولكنْ عليكم بإبراهيم عليه السلام، فإنه خليل الله، فيأْتون إبراهيم فيقول: لَسْتُ لها، ولكِنْ عليكم بموسى عليه السلام، فإنه كَلِيم الله، فيُؤْتَى موسى، فيقول: لسْتُ لها، ولكنْ عليكم بعيسى عليه السلام، فإنه روح الله وكلِمَتُه، فيُؤتَى عيسى، فيقول: لسْتُ لها، ولكِنْ عليْكُم بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَأُوتَى، فأقول: أنا لها، فأنْطَلِق فأسْتَأْذن على ربِّي، فيُؤْذَن لي، فأقوم بين يديْه فأحْمَدُه بمحامِدَ لا أقْدِر عليه الآن (المقصود الثناء على الله قبل الطلب، لأن هذا من آداب الدعاء)، يُلْهِمُنِيهِ اللَّهُ، ثُمَّ أخِرُّ له ساجداً، فيُقال لي: يا مُحَمَّد، ارْفعْ رأسك، وقُلْ: يُسْمَعْ لك، وسَلْ تُعْطَهْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، فأقول: رَبِّ، أُمَّتي، أُمَّتي، فيُقال: انْطَلِقْ، فمَنْ كان في قَلْبه مِثْقال حَبَّةٍ مِنْ بُرَّة، أوْ شَعِيرَة (حَبَّةُ نباتِ الشَّعيرِ وهو قدرٌ يَسير) من إيمانٍ، فأخْرِجْه مِنْها (وهذا بعدَ أن يَدخُلَ أهلُ النَّارِ النَّارَ، ومعهم عُصاة المسلمين)، فأنْطَلِقُ فأفْعَل، ثُمَّ أرْجِعُ إلى رَبِّي فأحْمَدهُ بتلْك المَحامِد، ثُمَّ أخِرُّ له ساجداً، فيُقال لي: يا مُحَمَّد، ارْفَعْ رَأْسَك، وقُلْ يُسْمَع لك، وسَلْ تُعْطَهْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، فأقُول: أُمَّتي، أُمَّتي، فيُقال لي: انْطَلِقْ فمَن كان في قَلْبه مثْقال حَبَّةٍ مِن خَرْدَلٍ (الخردل: حُبوبٌ في غايةِ الصِّغَرِ والدِّقَّة، يُضرَب بها المَثَل في الصِّغَر) مِن إيمانٍ فأخْرِجْه مِنْها، فأنْطَلِقُ فأفعل، ثُمَّ أعُود إلى ربِّي فأحْمَدُه بتِلْك المَحامِد، ثُمَّ أخِرُّ له ساجداً، فيُقال لي: يا مُحَمَّد، ارْفعْ رأسك، وقُلْ يُسْمَعْ لك، وسَلْ تُعْطَهْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، فأقول: يا رَبِّ، أُمَّتي، أُمَّتِي، فيُقال لي: انْطَلقْ فمَن كان في قَلْبه أدْنَى، أدْنَى، أدْنَى، مِنْ مِثْقال حَبَّةٍ مِن خَرْدَلٍ مِن إيمانٍ فأخْرِجْه مِنَ النَّار، فأنْطَلِق فأفعل. هذا حديث أنسٍ الذي أنْبَأنا به.. فخرجْنا مِن عنده، فلمَّا كُنَّا بظَهْرِ الجَبَّان (الصحراء ويُسَمَّى بها المقابر)، قلنا: لو مِلْنا إلى الحَسَن (الحسن البصري) فسَلَّمْنا عليه وهو مُسْتَخْفٍ (متغيبا خوفا من الحجاج بن يوسف) في دار أبي خليفة، قال: فدخلْنا عليه فَسَلَّمْنا عليه، فَقُلْنا: يا أبا سعيد (كنية الحسن البصري)، جِئْنا مِن عِند أخيك أبي حَمْزة (أنس)، فَلَمْ نَسْمَعْ مِثْل حَدِيثٍ حَدَّثَناه في الشَّفاعة، قال: هيه (يقال في استزادة الحديث)، فَحَدَّثْناه الحديث، فقال: هيه، قُلْنا: ما زادنا، قال ـ الحسن ـ: قدْ حَدَّثنا به مُنْذ عشرين سنةً وهو يومئذٍ جَمِيع (لم يَدخُل في الكِبَرِ الذي هو مَظِنَّة تَفرُّق الذِّهن، وحُدوث اختلاط الحِفظ)، ولقَدْ ترك شيئاً ما أدْرِي أنَسِيَ الشَّيْخُ أوْ كَرِه أنْ يُحَدِّثَكُمْ فَتَتَّكِلوا، قُلْنا له: حَدِّثْنا، فضحِك وقال: {خُلِقَ الإنْسانُ مِن عَجَلٍ}(الأنبياء:37)، ما ذَكَرْتُ لَكُمْ هذا إلَّا وأنا أُرِيد أنْ أُحَدِّثَكُمُوه: ثُمَّ أرْجِع إلى رَبِّي في الرَّابعة، فأحْمَدُه بتلْك المحامدِ، ثُمَّ أخِرُّ له ساجداً، فيُقالُ لي: يا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَك، وقلْ يُسْمَعْ لك، وسَلْ تُعْطَ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، فأقول: يا رَبِّ، ائْذَنْ لي فِيمَن قال: لا إله إلَّا اللَّه، قال: ليس ذاك لَك، أوْ قال: ليس ذاك إليْك، ولَكِنْ وعِزَّتي وكِبْرِيائِي وعَظَمَتي وجِبْرِيائِي (عظمتي وسلطاني)، لأُخْرِجَنَّ مَنْ قال: لا إله إلَا اللَّه. قال: فأشْهَد على الحَسَنِ أنَّه حَدَّثَنا به، أنَّه سمِع أنَسَ بن مالِك أُراه قال: قَبْل عشْرين سنة وهو يومِئِذٍ جَمِيع (مجتمع القوة والحِفظ)) رواه البخاري ومسلم..
قال القاضي عياض في "إِكْمال المُعْلِم بفوائد مسلم": "هذه هي الشفاعة التي لجأ الناس إليه فيها، وهي الإراحة من الموقف والفصل بين العباد، ثم بعد ذلك حلت الشفاعة في أمته، وفى المذنبين، وحلت شفاعةُ الأنبياء وغيرهم، والملائكة، كما جاء في الأحاديث الأُخَر.. وبهذا تجتمع متون الأحاديث، وتترتب معانيها، ولا تتنافر ولا تختلف، إن شاء الله تعالى".. وقال الشيخ ابن باز: "النبي صلى الله عليه وسلم له شفاعاتٌ، منها: شَيءٌ يَختَصُّ به، ومنها شَيءٌ يشترك معه النَّاس فيه. فأمَّا الشفاعة التي تَختَص به فهي الشَّفاعة العُظمى لأهلِ المَوقِف يَشفَع لهم، يَسجُد عِند رَبِّه ويَحمَدُه مَحامِدَ عظيمة، ويَأذَن الله له بالشفاعة، فيَشفع لأهل المَوقِف حَتَّى يقضي بينهم، وهذه من خَصائِصه عليه الصَّلاة والسلام، وهذا هو المَقام المَحمود، الذي ذَكَر الله جَلَّ وعلا: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}(الإسراء:79) وهذا المَقام هو مَقام الشفاعة، يَحمَده فيه الأولون والآخِرون، عليه الصلاة والسلام، فإنَّه تَتَوَجَّه إليه الخَلائِقُ يَوم القيامة، المُؤمِنون يَتَوَجَّهون إليه، بعدما يَتَوَجَّهون إلى آدَم ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، فكُلُّهم يَعتَذِرون، ثُمَّ يَقول لهم عيسى: اذهبوا إلى عَبدٍ قد غَفَر اللهُ له من ذَنبِه ما تَقَدَّم وما تَأخَّر، يعني مُحَمَّدًا عليه الصلاة والسلام، فيَتَوَجَّهون إليه فإذا طلبوا منه، تَقَدَّمَ عليه الصَّلاة والسَّلام إلى رَبِّه، وسَجَد بينَ يَدَيِ العَرْش، وحَمِدَه سُبحانَه بمَحامِد عَظيمة، يَفتَحها الله عليه، ثُمَّ يُقال له: يا مُحَمَّد، ارفَع رَأسَك، وقُلْ يُسمَعْ، واسأَلْ تُعْطَه، واشفَعْ تُشَفَّعْ، فيُشفَّع عِندَ ذلك، بعد إذْنِ الله سبحانه وتعالى، لأنَّه يَقولُ عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}(البقرة:255)، فلا أحَدَ يَشفَعُ عِنده إلَّا بإذنه سبحانه وتعالى. وهناك شفاعاتٌ أخرى خاصَّةٌ به عليه الصلاة والسلام"..
وفي حديث الشفاعة العظمى برواياته الصحيحة المتعددة: إِثبات صفة الكلام لله عز وجل، فأهل السُنة يثبتون صفة الكلام لله تعالى، وينصون على أنه لا يُشبه كلام المخلوقين، بل هو على ما يَليقُ بجَلالِه وكمالِه، قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(الشورى:11). قال القرطبي: "والذي يُعْتقد في هذا الباب أن الله جلَّ اسمه في عظمته وكبريائه وملكوته وحُسْنى أسمائه وعَليِّ صفاته، لا يشبه شيئا مِن مخلوقاته ولا يُشبه به {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وقد قال بعض العلماء المحققين: التوحيد إثبات ذات غير مُشبهة للذوات، ولا مُعَطّلة من الصفات. وزاد الواسطي رحمه الله بيانا فقال: ليس كذاته ذات، ولا كاسمه اسم، ولا كفعله فعل، ولا كصفته صفة إلا من جهة موافقة اللفظ.. وهذا كله مذهب أهل الحق والسُنة والجماعة رضي الله عنهم". وقال السعدي: "{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أي: ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء مِنْ مخلوقاته، لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، لأنَّ أسماءه كلها حُسنى، وصفاته صفات كمال وعظمة.. فليس كمثله شيء، لانفراده وتوحده بالكمال من كل وجه"..
وفي الحديث ـ حديث الشفاعة ـ: بيان سَعَة رحمة الله عز وجل بعِباده، وفيه: فضل كلمة "لا إِله إِلَّا الله" على صاحِبِها وقائلها، وفيه: دليلٌ على أنَّ أهل المعاصي من أُمَّة مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لا يُخلَّدون في النَّار.. وفيه: إثبات الشَّفاعة العظمى الخاصة بنبينا مُحَمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة التي اختَصَّه اللهُ تعالى وأكرمه بها، كما أنَّ له صلوات الله وسلامه عليه شفاعات أخرى..