
لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم همٌّ منذ أن بُعث في مكة إلى أن هاجر منها بعد ثلاث عشرة سنة إلا الدعوة لأمر واحد لا ثاني له، ألا وهو قضية الإسلام الأولى قضية العقيدة في محورها الرئيس الألوهية والربوبية، ذلك أن مكة التي كانت تزعم أنها على دين إبراهيم عليه السلام قد أخطأت الحنيفية السمحة دينَ إبراهيم، وراحت تشرك مع الله آلهة أخرى، وتعتقد أن في هذا الكون قوة تديره وتدبره معه سبحانه وتعالى، ولذا جاءت دعوته صلى الله عليه وسلم موجهة لإصلاح تلك العقيدة، وإعادتها عقيدة حنيفية سمحة وإخلاص العبودية لله سبحانه لا شريك له .
ولقد كانت الكلمة التي يطرق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قلوب الناس وأسماعَهم في نواديهم وأسواقهم ومواسمهم كلمةً واحدة يقول: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» رواه أحمد. وجاهد صلى الله عليه وسلم في سبيل تبليغها وتعليمها جهادًا كبيرًا، وناله في سبيل ذلك من الأذى ما ناله حتى قال صلى الله عليه وسلم: «لقد أُخفت في الله وما يُخاف أحد، ولقد أُوذيت في الله وما يُؤذى أحد» رواه الترمذي. وكان باستطاعته صلى الله عليه وسلم أن يختصر الطريق على نفسه، فيبدأ بالدعوة لإصلاح غيرها من القضايا الاجتماعية والأخلاقية التي كانت تؤرق المجتمع المكي أو العربي عمومًا، كالدعوة لمحاربة الزنا والسفاح، أو لمنع الربا، أو للحد من الفقر، أو لغيرها من قضايا المجتمع وإشكالاته.
وقد كانت الدعوة لإصلاح تلك القضايا كفيلةً برفع الأذى والخوف عنه صلى الله عليه وسلم، وجمع شريحة كبيرة من الناس حوله، يدعوهم بعدها للتوحيد والعقيدة الصحيحة في الله تعالى وفي كونه، ولكن العقيدة التي كان يدعو إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست تجارة تمتهن، فإن درَّت على صاحبها ربحًا تمسك بها وإلا تركها إلى غيرها، فشأن من هذه حاله أنه لا يلبث أن يترك العقيدة إلى غيرها إن خسر كسبه وماله، وشأن العقيدة التي يدعو إليها أعظم من ذلك وأكبر، فهي عقيدة تُعتنق لذاتها، دون التفات إلى ما يأتي بعد ذلك، بل إن المهج والأموال تبذل في سبيل هذه العقيدة.
لقد آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون بداية دعوته دعوةً إلى توحيد الله تعالى في ألوهيته وربوبيته، وفي أسمائه وصفاته أيضًا، ونزل عليه في مكة أكثر من ثلثي القرآن كله يتكلم عن هذه القضية وإن بصور وأساليبَ مختلفة، كانت السور المكية تعرض القضية العقدية من خلال الحديث عن ذات الله تعالى وصفاته، وعن آثار قدرته وإبداعه في خلقه كله، في نفس الإنسان وحياته، والكون وآفاقه، وتسخير ما أُودع فيه للإنسان، جاء التركيز في الآيات والسور التي كانت تتنزل في تلك الفترة على جوانب مختلفة، فمرة على جانب الخوف والحذر، وأخرى على جانب الطمأنينة والرجاء، وثالثة على جانب المهابة والجلال، ورابعة على جانب الجبروت والقوة والقهر...؛ تستحيي بذلك الحقيقة الكامنة في الفطرة البشرية حقيقة العقيدة والإيمان بأن المستحق للعبادة في هذا الكون هو الله تعالى وحده، وأنه وحده هو الخالق والمدبر لهذا الكون سبحانه، والله يقول: (أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ تَعَٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشۡرِكُونَ) [النمل: 63].
ولقد أُذي صلى الله عليه وسلم في سبيل دعوته تلك، ورضي أن يخرج من مكة بلد الله الحرام، ولم يتراجع قِيْد أنملة عن الدعوة لهذه العقيدة، ولا أن يقدم عليها دعوة تجمع الناس على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، أو تعظيم الكعبة بكثرة الطواف حولها، أو غيرها من أصول التشريعات وفروعها، فضلًا على أن يقبل مهادنة قريش على دينها ولو سنة بسنة، أو أن يقبل ما عرضوه عليه من ملك ودنيا، فتشريعات الإسلام وأحكامه إن لم تقم على أساس راسخ من العقيدة لا تلبث أن تذهب من القلوب وتُنسى، شأن من سبقنا من الأمم التي أضاعت عقيدة التوحيد فضلت في تشريعاتها وأحكام دينها.
لقد وعى الرعيل الأول من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانة العقيدة من هذه الدعوة؛ فحملوها كما جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيفية سمحة، عرفوا بها أنهم عبيد لله تعالى يفعل بهم سبحانه ما يشاء، وأن - تعالى - الخالق الرازق، المدبر وحده لهذا الكون، المستحق وحده سبحانه للعبادة؛ فلم يشركوا به شيئًا، ولم يطلبوا من غيره رزقًا ولا مددًا، ولم يستطيعوا معها التراجع عن إيمانهم بالله قيد أنملة بعد أن ذاقت قلوبهم حلاوته، رضيت سمية أن تموت تحت العذاب على أن تتراجع عن عقيدتها، وتحمل بلال سياط أمية على رمضاء مكة على أن يسبَّ الله تعالى، وراح يطلقها مدوية في ضمائر المشركين "أحد" "أحد"، وما كان لهؤلاء وغيرهم أن يثبتوا هذا الثبات لولا هذه العقيدة التي تورث حملتها إيمانًا تزول الراسيات ولا يزول، وتسليمًا لأمر الله تعالى تهون أمامه النفوس والأموال، وهم يقرؤون سورة الفجر، والبروج، والكهف، وغيرها من السورة المكية التي تعرض نماذج الثبات على العقيدة، والموت دونها.
وما إن رسخت هذه العقيدة في قلوب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذن الله تعالى بالهجرة إلى المدينة؛ أخذت التشريعات تتنزل على رسول الله في المدينة المنورة، ففرضت الصلاة قبيل الهجرة، ثم في المدينة فرضت الزكاة، وفرض الصيام والحج، وشرعت أحكام المعاملات والأسرة والجهاد، ونزل تحريم الربا والزنا والخمر، وغيرها من أحكام الإسلام؛ فتلقتها القلوب المؤمنة بالقَبول، ولم يسجل لنا التاريخ أن أحدهم قال: أبدأ الصلاة بالظهر والعصر فقط، وأرجئ غيرها إلى قابل الأيام، أو: لعلي أصوم يومًا من رمضان وأفطر يومًا، أو: أشرب القليل من الخمر فهو غير مسكر، أو أبقي ما عندي من خمر حتى أنهيه ثم لا أعود إليه، فليس ذلك شأن القلوب التي امتلأت بعقيدة التوحيد والإذعان والاستسلام لله تعالى، وصبرت على الخوف والأذى في سبيلها، بل ما إن بلغهم الأمر عن الله تعالى إلا (وَقَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَا) [البقرة: 285].
ومن هنا تظهر أهمية العقيدة في الدعوة إلى الله تعالى، وأنه ينبغي على الدعاة والمربين البدء بها في دعوة الناس، وتربية النشء، لما تورثه من إيمان راسخ في القلوب تثبت به عند المحن والبلايا، فكما كانت تلك سنته وطريقته صلى الله عليه وسلم في مكة، كانت هي سنته وهديه في المدينة أيضًا.
ألم يحمل معه الغلام ابن عباس وأخذ يعلمه العقيدة، ويقول له: «يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف» رواه الترمذي.
ألم ينقل لنا الغلام جندب بن جنادة رضي الله عنه طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التربية على الإيمان والعقيدة حيث قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانًا» رواه ابن ماجه. فقد كانوا يعلمون أصول الإيمان، والعقيدة الصحيحة قبل كل شيء؛ لأنها الأساس الذي يقوم عليه ما بعده، ومن لا أساس له لن يثبت له بناء.
على أن تلك العقيدة التي ينبغي على الدعاة والمربين تقديمها على غيرها وتعليمها الناس؛ ليست قضايا لاهوتية فلسفية، أو قضايا كلامية تعكر صفو الإيمان ونقائه، بل عقيدة تزيد الإيمان في القلوب، حديث عن رحمة الله تعالى، وعن جمال أسمائه وكمال صفاته، وعن آثار قدرته في خلقه، فتلك هي العقيدة التي قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على غيرها، التي تتوافق وفطرة التوحيد التي فطر الله تعالى الناس عليها.