الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أسباب الفوز بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

أسباب الفوز بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

أسباب الفوز بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

مِنْ أعظم نِعَم الله تعالى علينا وعلى البشرية كلها بعثة نبينا مُحمد صلى الله عليه وسلم الذي قال الله تعالى عنه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(الأنبياء:107). قال ابن كثير: "يخبر تعالى أنّ الله جعل مُحمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، أي: أرسله رحمة لهم كلهم، فمَنْ قَبِل هذه الرحمة وشكر هذه النعمة، سعد في الدنيا والآخرة، ومَن ردَّها وجحدها خسر في الدنيا والآخرة ". وقال ابن تيمية: "مَنِ اسْتَقْرأ أَحْوال العالَم تَبَيَّن له أنَّ اللَّه لمْ يُنْعِمْ على أهل الأرض نِعْمَة أعظم مِنْ إِنْعَامِه بإرساله صلى اللَّه عليه وسلم"..

لقد جعل الله تعالى لِكُلِّ نبيٍّ دعوة مُسْتجابة، وجميع الأنبياء تَعَجَّلوا دعوتَهم في الدنيا، واختبأ نبينا صلى الله عليه وسلم دعوتَه شفاعةً لأمّته يوم القيامة. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لِكُلِّ نَبِيٍّ دعوة مُسْتجابة، فتعجَّل كل نبي دعوتَه، وإني اختبأتُ (ادَّخَرْتُ وأبقيت) دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة) رواه مسلم. قال الطيبي: "اعلم أنَّ جميع دعوات الأنبياء مستجابة، والمراد بهذا الحديث: أنَّ كلَّ نبي دعا على أمته بالإهلاك، كنوح، وصالح، وشعيب، وموسى، وغيرهم، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم، فلم يَدْع على أعدائه بالإهلاك، فأُعْطِي قبول الشفاعة يوم القيامة عِوضاً عما لمْ يدع على أمته، وصبر على أذاهم"..
والأدلة الواردة في شأن الشفاعة العُظمى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بلغت حد التواتر لفظاً ومعنى كما قال القاضي عِياض والسيوطي وغيرهما، والأحاديث فيها كثيرة، منها ما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فيقول: (يقول الله يوم القيامة): يا مُحَمَّد، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وسَلْ تُعْطَ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، فأقول: يا رَبِّ أُمَّتي، أُمَّتي، فيقول: انْطَلِقْ فأخْرِجْ مَن كانَ في قَلْبِه أدْنى، أدْنى، أدْنَى مِثْقالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِن إيمان فأخْرِجْهُ مِنَ النَّار). قال الإسفراييني: "وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم بلغت مبلغ التواتر وانعقد عليها إجماع أهل الحق منَ السلف الصالح". وقال عبد الغَنيّ المَقدِسيّ في "الاقتصاد في الاعتقاد": "يَعتَقِدُ أهلُ السُّنَّة ويؤمِنون أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَشفع يوم القيامة لأهل الجَمع كُلِّهم شفاعةً عامَّة، ويَشفَعُ في المُذنِبين من أمَّتِه فيُخرِجُهم من النَّارِ بَعد ما احتَرَقوا"..

ولِعَظم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ينبغي علينا معرفة الأسباب التي تُنال بها، حتى نحرص عليها ونتحقق بها، ومِن ذلك:
1 ـ مَنْ مات لا يشرك بالله شيئاً:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإني اختبأتُ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله تعالى مَنْ مات مِنْ أمتي لا يشرك بالله شيئاً) رواه مسلم. وفي رواية البخاري: (قيل يا رسول اللَّه مَن أسْعَدُ النَّاس بشَفَاعَتِك يوم القيامة؟ قال: لقد ظَنَنْتُ يا أبا هريرة أنْ لا يسْألنِي عن هذا الحَديثِ أحَدٌ أوَّل مِنْك لِما رَأَيْتُ مِن حِرْصك على الحديث: أسْعَد النَّاس بشفاعتي يوم القيامة، مَنْ قال لا إله إلَّا اللَّه، خَالِصًا مِن قَلْبِه). هذا الحديث برواياته الصحيحة المتعددة يخبرنا فيه النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ أسعدَ الناسِ بشَفاعتِه يوم القيامة هو مَنْ قال: "لا إله إلَّا اللَّه" مُعتقِدًا معْناها، عاملًا بمُقتضاها، مُخلِصًا في الإيمان بتَرْك الشِّرك، وفي الطاعة بتَرْك الرِّياء.
وقال ابن القيم في "تهذيب السنن": "(أسعَدُ النَّاسِ بشَفاعتي مَن قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ) سِرٌّ من أسرارِ التَّوحيد، وهو أنَّ الشَّفاعة إنَّما تُنال بتجريدِ التَّوحيد، فمَنْ كان أكمَل تَوحيدًا كان أَحْرى بالشفاعة". وقال ابن حجر في "فتح الباري": "والمراد بقوله: (لا إله إلا الله)، يعني: ومُحمّد رسول الله أيضاً، فاكتفى بالجزء الأول بذِكْرِه عن الجزء الثاني، وإلا المراد الأمران معاً".
2 ـ سؤال الله الوسيلة للنبي بعد الأذان:
مِن الخصوصيات والفضائل التي خصَّ وفضَّل الله بها نبينا تشريفاً وتكريماً له دون غيره مِنَ البَشَر في الآخرة: أنه صاحب الوسيلة وهي أعلى درجة في الجنة، لا ينالها إلا عَبْد واحد مِنْ عباد الله وهو نبينا مُحمد صلى الله عليه وسلم، ومَن سَأَلَ الله تعالى له الوَسِيلَة فاز بشفاعته يوم القيامة.
عن عبد الله عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إِذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذّن فقولوا مثل ما يقول، ثم صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً، صَلَّى اللَّهُ عليه بِهَا عَشْرًا، ثم سَلُوا اللَّهَ لِي الوسيلة، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لا تَنْبَغِي إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِباد اللَّه، وأرجو أنْ أَكون أَنَا هو، فَمَنْ سَأَلَ لِي الوسيلة، حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَة) رواه مسلم.
قال ابن تيمية: "هذه الوسيلة للنبي خاصة.. وأخبر أنَّ مَنْ سأل له هذه الوسيلة فقد حلت عليه الشفاعة يوم القيامة، لأن الجزاء مِنْ جنس العمل"..
وقال الشيخ ابن عثيمين في "شرح رياض الصالحين": "نقول: اللهم صلِّ على مُحمد، فإن مَنْ صلى عليه مرة واحدة صلى الله عليه بها عَشْرا، ثم نسأل الله له الوسيلة: اللهم ربِّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدْتَه إنك لا تخلف الميعاد. فإذا صلينا على النبي وسألنا اللهَ له الوسيلة حلت لنا الشفاعة.. (وأرجو أن أكون أنا هو) وهذا الرجاء إنْ شاء الله تعالى سيكون مُحقَّقا لأننا نعلم أنَّ أفضل الخَلق عند الله محمد صلى الله عليه وسلم"..
3 ـ الإكثار من الصلاة على النبي:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ أوْلَى النَّاسِ بي يَومَ القيامة أَكْثرُهُم عليَّ صلاة) رواه الترمذي.
قال الطيبي في "الكاشف عن حقائق السنن": "قوله: (أَوْلَي الناس بي) يعني أن أخص أمتي بي، وأقربهم مني، وأحقهم بشفاعتي، أكثرهم عليَّ صلاة".
وقال المناوي في "التيسير بشرح الجامع الصغير": "(إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة) أي أقربهم مني في القيامة وأحقهم بشفاعتي أكثرهم عليَّ صلاة في الدنيا، لأن كثرة الصلاة عليه تدل على صدق المحبة وكمال الوصلة، فتكون منازلهم في الآخرة منه بحسب تفاوتهم في ذلك".
4 ـ الحرص والمحافظة على الصلاة:
المحافظة على الصلوات الفرائض، والإكثار مِن النوافل في الليل والنهار، سبيل إلى مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم والفوز بشفاعته يوم القيامة.
عن زياد بن أَبِي زياد مَوْلَى بنِي مَخْزوم عَنْ خَادِمٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم مما يقول للخادم: ألك حاجة؟ حتى كان ذات يوم فقال: يا رسول الله حاجتي، قال: وما حاجتُك؟ قال: حاجتي أن تشفع لي يوم القيامة، قال: مَنْ دلك على هذا؟ قال: ربي عز وجل (الله سبحانه هو الذي ألْهَمه ذلك الطلب)، قال صلى الله عليه وسلم: إمَّا لا بد (أي: إنْ كان لا بُد) فأعني بكثرة السجود) رواه أحمد، وقريب مِن هذا المعنى قد جاء عن ربيعة بن كعب الأسلمي..
(فأعني بكثرة السجود) أي: الزَمْ كثرة السجود لله في الصلاة في الفَرائض والنوافل، وهذا السجود سَببٌ لدُخول الجنة، ومُرافَقتِك لي، وشفاعتي لك بها. قال النووي: " فيه الحث على كثرة السجود والترغيب به، والمراد به السجود في الصلاة".
5 ـ الصبر على العَيش في المدينة المنورة، والحرص على الموت بها:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (سَمِعْتُ رسولَ الله صلى اللَّه عليه وسلم يقول: لا يَصْبر علَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا (الجوع والشدة) أَحَدٌ، إلَّا كُنْتُ له شَهِيدًا أَوْ شَفِيعًا يوم القيامة) رواه مسلم. وفي رواية للترمذي: (مَنِ استطاعَ أن يموت بالمدينة فليمُت بها، فإنِّي أشفَع لمن يموت بها). قال البيضاوي في "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة": "أي: مَنِ استطاع أنْ يقيم بالمدينة حتى يموت إذا جاءه الموت فليمت بها". وقال المناوي: "(فإني أشفع لمن يموت بها) أي أخصه بشفاعة غير العامة زيادة في الكرامة". وقال الهروي: "(والمعنى: شفاعة مخصوصة بأهلها لم توجد لمن لم يمت بها"..

فائدة:
مِن المعلوم أنه لا يُسْأَل ولا يُطْلَب مِنَ النبي صلى الله عليه وسلم شفاعته ـ فضلا عن غيره ـ، بل يُطْلَب ذلك مِنَ الله وحده. قال ابن تيمية: "فإن طلب شفاعته ودعائه واستغفاره بعد موته وعند قبره ليس مشروعاً". وقد سُئل الشيخ ابن عثيمين: هل يجوز طلب الشفاعة مِنَ النبي صلى الله عليه وسلم وهو الآن في قبره؟ فأجاب: "لا يجوز هذا حرام، بل قد يكون مِنَ الشرك، لأن هذا دعاء للنبي عليه الصلاة والسلام، وبدلا مِنْ أن يقول: أسألك يا رسول الله أنْ تشفع لي، يقول: يا رب شفِّع فيَّ رسولك حتى يكون الدعاء موجه إلى الله عز وجل، أما الرسول الآن ما يستطيع أنْ يشفع لك، ثم حتى يوم القيامة ما يستطيع أن يشفع لأحدٍ إلا بإذن الله"..

ليس المقصود مِن الكلام والحديث عن عِظم قدْر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، التقليل مِن خطورة المعاصي والجرأة عليها والاستهانة بها، فالعذاب في النار - ولو كان مؤقتًا ووقتاً قليلا - لا ينبغي أبدًا أنْ يُستهان به، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ أهْوَن (أقل) أهْل النَّار عذابًا يوم القيامة، لَرَجُلٌ تُوضَع في أَخْمَص قَدَمَيْه (الجُزء المُجوَّف في باطِن القدَم) جَمْرَةٌ يَغْلِي منها دِماغُه) رواه البخاري. وإنما المقصود مِنَ الحديث عن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته يوم القيامة: السعي في التحقق بوسائل وأسباب الفوز بها، وإظهار عِظَم قَدْر نبينا صلى الله عليه وسلم وخصوصيته بالشفاعة العُظمى، وكذلك مدى رحمته وشفقته بأمته..
قال الطيبي: "اللهم ارزقنا شفاعة هذا النبي صلى الله عليه وسلم المُكرم، والشفيع المُشَفَّع يوم الدين، ولا تسؤه فينا بأنْ تحرمنا شفاعته يا رب العالمين"..

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة