
في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة للهجرة، توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير، وهي قبيلة من قبائل اليهود كانت منازلهم ظاهر المدينة على أميال منها شرقيها.
ذهب ـ ليستعين بهم في دية رجلين كافرين قتلهما بالخطأ رجل من المسلمين، كما ينص على ذلك بنود العهد والميثاق والمعاهدة التي بينه وبينهم.
قالوا: نعم يا أبا القاسم نفعل.. وجلس النبي ومن معه إلى جانب حائط من حوائطهم ينتظر حتى يجمعوا له ما وعدوا به، لكنهم لما خلوا عنه تحركت نوازع الغدر المتأصلة في قلوبهم، وكوامن الحقد المتجذرة في نفوسهم، واستيقظت في نفوسهم الذئاب الضارية، والثعالب الماكرة، والأفاعي السامة، وقال بعضهم لبعض: إنكم لن تجدوا الرجل في مثل هذه الحال أبدا، فمن رجل يصعد إلى سطح هذا البيت فيلقى عليه الرحا أو صخرة فيقتله ونتخلص منه؟.. فقال عمرو بن جحاش: أنا أفعل.. وقال لهم سلام بن مشكم ـ وهو أحد سادتهم وأكابر أحبارهم: "لا تفعلوا.. فوالله ليُخبَرنَّ بما هممتم به، وإن هذا لنقض للعهد الذي بيننا وبينه". فأبوا عليه، ولم يسمعوا له، وسعوا في تنفيذ ما تآمروا عليه من الغدر والخيانة.
وجاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما تتآمر عليه اليهود، فقام مسرعا دون أن يكلم أحدا وعاد إلى المدينة. فلما استبطأه أصحابه والوفد الذين كانوا معه قاموا فرجعوا.. فلما بلغوا المدينة أخبرهم النبي بما هم بهم هؤلاء المجرمون.
وبعث النبي صلوات الله عليه إليهم محمد بن مسلمة برسالة يقول لهم فيها: (اخرجوا عني، ولا تساكنوني في المدينة، وقد أمهلتكم عشرا، فمن وجدته بعد ذلك منكم ضربت عنقه).
خيانة ابن سلول
ولم يجد اليهود مناصا ولا سبيلا إلا أن يفعلوا ما أمرهم، وجدُّوا في تجهيز حالهم، وجمع متاعهم للخروج... ولكن.. برز دور المنافقين وخيانتهم المعهودة عنهم، وأرسل إليهم عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق وزعيم المنافقين يقول لهم: "اثبتوا ولا تخرجوا من دياركم، وتمنّعوا في حصونك، وإن معي ألفي رجل يدخلون معكم، ويحاربون عنكم، ويموتون دونكم، وتنصركم بنو قريظة، وحلفاؤكم من غطفان"، وعند ذلك تشجعت بنو النضير وقويت قلوبهم، وأرسل سيدهم حيي بن أخطب إلى النبي يقول له: "إنا لن نترك ديارنا، فاصنع ما بدالك".
فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر، وكبر المسلمون، وتجهز لحربهم، فجمع الناس وحاصرهم في حصونهم.
أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا
وكانت حصونهم قوية ذات منعة، فظنوا أنها تحميهم، وظن المسلمون أنهم لن يخرجوا منها كما قال تعالى: {مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا ۖ وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر:2].
نعم.. أتاهم من قِبَلِ قلوبهم ودواخل نفوسهم، ولم يأتهم من قبل حصونهم، {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ}، وخذلهم المنافقون، وأسلمهم إخوانهم يهود بني قريظة، ولم يقف معهم حلفاؤهم من غطفان، فأوقع الله بهم، وملأ قلوبهم بالرعب والخوف، حتى فتحوا حصونهم بأيديهم، وسلموا أنفسهم بأنفسهم، وأراهم الله أنهم لا يملكون منه ذواتهم، ولا يحكمون قلوبهم، ولا يمتنعون عليه في أنفسهم فضلا عن دورهم وحصونهم.
فأرسلوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليسمح لهم بالخروج، فصالحهم على أن يخرجوا بأنفسهم ونسائهم وذراريهم، وما حملت الإبل إلا السلاح.. فكان الواحد منهم يهدم بيته بيديه ليأخذ بابا أو خشبة في سقفه، أو ليمنع المسلمين من الانتفاع به، كما قال سبحانه: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ}، وأورث الله نبيه وأتباعه أرضهم وديارهم وأموالهم، ونصر الله رسوله وأولياءه، وخذل الله أعداءه من الكافرين والمنافقين.. لتكون عبرة للناس كما قال سبحانه: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}.أي من المؤمنين وغير المؤمنين، ليكن لكم في هذا درس وعبرة، لتعلموا أن الله تعالى إذا أراد شيئا أتى له من حيث يعرف ومن حيث يقدر، وهو بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، لا حاجة له إلى سبب ولا وسيلة مما يعرف الناس، وإنما السبب والوسيلة من خلقه، فلا تعز عليه الأسباب ولا تمتنع عليه الوسائل، ولا يعز عليه أحد من خلقه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا راد لقضائه ولا غالب لأمره ولا معقب لحكمه.. وأن النصر كله بيديه، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء وهو العزيز الحكيم.
ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله
وقد بين سبحانه سبب ما فعل بهم، فقال {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}[الحشر:4].أي أنهم كانوا في شق وجانب مضاد ومعاند لجانب الله ورسوله، {وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
وهكذا سنة الله في كل من يحادد الله ورسوله، ويشاقق الله ورسوله، يعاقبه الله أشد العقاب، إما أن يسلط عليه عباده المؤمنين فيسومونه سوء العذاب، فينتقم بأوليائه من أعدائه، وإما أن يعذبهم هو سبحانه بقدرته وعذابه وأليم عقابه. إنه قوي شديد العقاب.
الذين كفروا من أهل الكتاب
وقد وصف الله هؤلاء اليهود في هذه السورة عدة مرات بوصف الكفر: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ}[الحشر:2]، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ}[الحشر:11]، وهكذا تكرر هذا الوصف في كتاب الله في مواطن كثيرة، والسبب:
أولا: ليعلم المؤمنون أن ما حدث لهم وما فعل بهم بسبب كفرهم بالله تعالى ورسوله، وبدينه في صورته الكاملة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يكون في قلوبهم شيء مما حدث لهم أو وقع بهم.
ثانيا: ليرد على من يزعم أن اليهود مؤمنون، أو أنهم ليسوا بكافرين، أو يزعم أنهم أصحاب دين يمكن أن ينجيهم من عذاب الله يوم القيامة، فمن زعم ذلك فقد كذب الله في كتابه، وكذب النبي في قتاله لهم ومحاربته إياهم.
ثالثا: ليعبئ قلوب المؤمنين ضدهم معنويا ونفسيا، فكأنه يقول لهم: "هؤلاء أعداء ربكم، وأعداء نبيكم، وأعداء دينكم، وهم أعداؤكم، فإياكم أن تطمئنوا إليهم، أو تثقوا فيهم، أو تركنوا إليهم، فإنه ليس لكم في قلوبهم إلا العداوة والبغضاء، وما تخفي صدورهم أكبر، فلا ينبغي أن يكون في قلوبكم لهم رأفة ولا مودة ولا موالاة ولا محبة.
دور المنافقون
ولما كانت السورة تتحدث عن الغزوة بكل ما فيها، لم يكن متصورا أن يمر الأمر دون ذكر حال المنافقين، ودورهم الخبيث في هذه الغزوة وفي مواقفهم من أهل الإيمان، وحالهم ومكانهم في حال نشوب الحرب بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.. وكما وقفوا من قبل مع يهود بني قينقاع، كذلك تكرر منهم هذا مع بني النضير، كما قال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}[الحشر:11].
فبين أن هؤلاء المنافقين وإن كانوا يظهرون شعار الإسلام، إلا أن أخوَّتَهم الحقيقية ومحبتهم الأساسية ليست مع المؤمنين وإنما هي مع الكافرين، وأن سمة المنافقين الكبرى والعظمى التي تنادي عليهم في كل زمان أنهم مع الكفار قلبا وقالبا، وحبا وعملا، وولاء وبراء، خائنون لله ولرسوله وللمؤمنين. {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ}.
سنكون معكم، وسنقف في صفكم، وسنمدكم بالمال والسلاح، ونمدكم بالرجال، ولن نطيع فيكم أحدا أبدا، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل سنحاربه معكم، ونكون معكم ضده..
وهذا تحذير من الله لعباده من هذه الفئة المارقة، ليحذروهم ولينتبهوا لهم، ولا يأمنوا مكرهم، فإنهم يهدمون الأمة من داخلها ويبثون فيها أسباب الوهن والضعف والتفرق والهزيمة. وهذا ليس حال منافقي المدينة ولا مع رسول الله فحسب، وإنما هذا ديدنهم ودأبهم على مر الأزمان.
ثم عقب سبحانه بأن حال أهل النفاق وما فعلوه إنما هو كحال الشيطان مع أوليائه، يسول لهم حتى يوقعهم في الكفر ثم يتركهم بعد ذلك ويسلمهم لسوء مصيرهم في الدنيا وفي الآخرة {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}[الحشر:16].
وختم السورة بأمر المسلمين بالاستعداد ليوم القيامة، وذكر بعض أسمائه الحسنى وصفاته التي تدل على واسع رحمته، وجليل عظمته، وشديد قدرته، وإحاطة علمه، ونفاذ أمره، وأن كل شيء منه وإليه، لتطمئن قلوب المؤمنون إليه، ويتوكلوا في جميع أمورهم عليه، ويسبحوا مع جميع الكون له فهو الذي {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الحشر:24].