الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الطريق إلى رقة القلب

الطريق إلى رقة القلب

الطريق إلى رقة القلب

أشرف ما في الإنسان قلبه، فهو محل الإيمان، وموطن العلم والعرفان، وهو محط نظر الرحمن، فإن الله لا ينظر إلى صور الناس وهيئاتهم، ولا إلى أجسادهم وثرواتهم، وإنما ينظر إلى قلوبهم وأعمالهم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللهَ تعالى لَا ينظرُ إلى صُوَرِكُمْ وَأمْوالِكُمْ ، ولكنْ إِنَّما ينظرُ إلى قلوبِكم وأعمالِكم) [رواه مسلم].

والقلب محل التقوى وموضعها كما قال صلى الله عليه وسلم: (التقوى ههنا) وأشار إلى قلبه.. وهو كذلك سيد الأعضاء، ومكانه من بقية الجوارح بمنزلة الملك من الرعية، فصلاحها كلها مرهون بصلاحه، وفسادها مبني على فساده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ)[متفق عليه].
وإذا القلوب استرسلت في غيها .. .. كانت بليتها على الأجساد

ولذلك لما علم إبليس قدر القلب ومقامه أجلب عليه بخيله ورجله سعيا إلى إفساده، وطلبا لإزالة سلامته، وزيادة قسوته، لأن القلب إذا قسى بعدت عنه السلامة، وترحل عنه كل خير، واستقر فيه معظم الشر، فهو بين مريض وميت، فلا تكاد تؤثر فيه موعظة، ولا ينتفع بتذكرة
إذا قسا القلب لم تنفعه موعظة .. .. كالأرض إن سبخت لم ينفع المطر

التحذير من قسوة القلب
وقد ذم الشرع القلوب القاسية وأصحابها، قال سبحانه: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)[البقرة:74]، وقال: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ)[الحديد: 16]، وقال: (فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[الزمر:22]، وروي عن رسول الله أنه قال: (لا تُكْثِرُوا الكلامَ بغيرِ ذِكْرِ اللهِ، فإن كثرةَ الكلامِ بغيرِ ذِكْرِ اللهِ قسوةٌ للقلبِ، وإن أبعدَ الناسِ من اللهِ القلبُ القاسِي)[الترمذي].

وفي المقابل امتدح الله أصحاب القلوب الرقيقة التي إذا ذكرت بالله تذكرت، وإذا بُصِّرت تبصرت، وإذا أُمرت استجابت وأسرعت، وإذا نهيت أطاعت وانتهت، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال:2]. (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)[الزمر:23]، وقال سبحانه: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ)[الرعد].

وإنما امتدح الله القلوب اللينة والرقيقة؛ لأن القلب إذا لان ورّقَّ استنارت بصيرته، وطابت سريرتُه، وخلصت نيتُه، وعظُمت بالله معرفتُه، وامتلأ من تعظيم الله وهيبته، وخوفه ومحبته، ورجائه وخشيته؛ فحينئذ تؤثر فيه المواعظ، وتعمل فيه الذكرى، فإذا هطلت عليه أمطار القرآن، أثمر فيه الإيمان، واخضرت أرضه، وأينعت ثمرته، فتجد صاحبه مسارعا إلى الخيرات، مسابقا إلى الطاعات، مشمرا منافسا في العبادات والقربات.
علامات رقة القلب
وهذه الرقة في القلب وذاك اللين لهما علامات.. فمن ذلك:
. محبة الله والاطمئنان بذكره: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ)[الرعد].

. الزهد في الدنيا وعدم التعلق بها: فمن أكثر من ذكر الدنيا وانشغل بجمع زخارفها قسى قلبه، وألهته عن ذكر الله والدار الآخرة، (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)، وعلى حسب تعلق العبد بها يقل تعلقه بالآخرة، وينسى ذكر ربه، ومن نسي الله أنساه نفسه، وقد حذرنا الله من هذا فقال: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[الحشر: 19].

. كثرة الصلوات والتلذذ بها: لأنها تدخله على الله، وتقربه منه، فيأنس به فلا يكاد يجد لذة أعظم منها، حتى تكون راحة قلبه، وقرة عينه كما قال صلى الله عليه وسلم: (حُبِّبَ إليَّ من دُنْياكمُ النِّساءُ والطِّيبُ وجُعِلَت قُرَّةُ عَيني في الصَّلاةِ) [النسائي].

. بكاء العين: فإنَّ رقة القلب توجب دمع العين، فيكثر بكاؤه خوفا من ربه وطمعا فيما بين يديه، خوفا من النار وغضب الجبار، وطلبا للجنة ورحمة الغفار، وهذا دأب الأنبياء والصالحين على مر السنين (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) [الإسراء]. وقال في سورة مريم بعد أن ذكر عددا من النبيين (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)[مريم:58].

. الرحمة بالمخلوقات والرفق بهم: وإنما قلت المخلوقات حتى يجمع البشر وغيرَهم، فأهل القلوب الرحيمة الرقيقة هم أرحم الناس بالناس، وأرفق الناس بالخلق، فهم يحسنون إلى الإنسان وإلى الحيوان، وهم أولى الناس بقوله صلى الله عليه وسلم: (ارْحَموا تُرْحَموا)[رواه أحمد والطرباني]، وقوله: (الراحمون يرحمُهم الرحمنُ. ارحموا من في الأرضِ يرحمْكم من في السماءِ)[الترمذي وقال حسن صحيح].

أسباب رقة القلب
وهذه الرقة في القلوب لها أسباب، من أخذ بها لان قلبه ورق، وصفت نفسه وزكت.. فمنها:
أولا: الترقي في الإيمان: فكلما عظم إيمان العبد، وزادت معرفته بربه زادت محبته لله، ورضاه به، وتأثره بكلامه، فزاد قلبه رقة ولينا (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر:9].

ثانيا: كثرة الذكر: وهو علامة وسبب، فمن أكثر من ذكر الله لان قلبه، ومن أراد لين قلبه فليكثر من ذكر ربه، فإذا لزم العبد الذكر استنار قلبه، وصفت سريرته، وزكت نفسه، ورق قلبه، وإن من فوائد الذكر: صلاح القلب وطمأنينته وذهاب قسوته؛ قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28].
وقلة الذكر علامة فساد القلب ودليل نفاقه: قال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء:142]. وقال: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الزمر:22].

ثالثا: التدبر في آيات الكون: ومشاهدة عظمة الله وقدرته، وقوته وحكمته، ولطفه بعباده ورحمته، وسعة ملكه فتخضع لله رقبته وتذل لله نفسه ويخشع قلبه. (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج:46].

رابعا: التدبر في آيات القرآن: فهو الروح الذي تحيا به النفوس، والمطر الذي ينمو به زرع الإيمان، وتنتح به ثمار التقوى، وتزهر به أرض القلب وتثمر، فتنبت فيها كل مقامات العبودية (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزمر23]، (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)[النحل]، (وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا)[الشورى:52].

خامسا: مسح رأس اليتامى والإحسان إلى المساكين: فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: (أَنَّ رَجُلاً شَكَا إِلَى رَسُولِ اللهِ –صلى الله عليه وسلم- قَسْوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ لَهُ: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ فَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ، وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ).(أخرجه أحمد وصححه الألباني).

سادسا: زيارة القبور: ففي مسند الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: (كنتُ نهيتُكم عن زيارَةِ القبورِ ألا فزورُوها، فإِنَّها تُرِقُّ القلْبَ، وتُدْمِعُ العينَ، وتُذَكِّرُ الآخرةَ، ولا تقولوا هُجْرًا)[صحيح الجامع].

سابعا: الدعاء: وكثرة التضرع لله تعالى بأن يهب لك قلبا خاشعا، وعينا دامعة، كما كان النبي يسأل: (أعوذُ بِكَ منْ عَينٍ لا تَدْمَعُ، ونفْسٍ لا تَشبَعُ، وقَلبٍ لا يَخْشَعُ) [صححه ابن حجر في الفتح].

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

قضايا شبابية

الغفلة.. والاغترار بالدنيا

لم يخلق الله تبارك وتعالى الكون عبثا، ولم يترك الناس سدى، بل خلق الكون لحكمة، وخلق الإنسان لمهمة، ومهمة الإنسان...المزيد