
من الأخلاق التي دعا إليها الإسلام، وأكد على أهميتها في العلاقات الاجتماعية والإنسانية، خلق المصارحة، وهي الصدق في الحديث، والوضوح في النصح، والابتعاد عن المجاملات المفرطة التي قد تُفضي إلى الكتمان والضيق والقطيعة.
المصارحة من لوازم النصح والإخلاص
إن المصارحة في أصلها فرع من فروع النصيحة، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الدين النصيحة"، قلنا: لمن؟ قال:"لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم" [رواه مسلم].
فالنصيحة تتطلب الصدق والمباشرة والوضوح، وكل ذلك يدخل تحت مفهوم المصارحة.
قال الإمام النووي رحمه الله:(النصيحة كلمة جامعة تتضمن إرادة الخير للمنصوح له، وهي فرض كفاية... وقد تكون فرض عين بحسب المقام).
كما إن المصارحة دليل محبة الخير للآخرين كما تحبه لنفسك، وهذا من علامات الإيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يُؤمن أحدُكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" [رواه البخاري ومسلم].
المصارحة تعني الصدق لا القسوة
ثمة من يخلط بين المصارحة والوقاحة، فيُلبس فظاظته ثوب "الصدق". ولكن الإسلام فرق بين المصارحة المهذبة، والفظاظة الجارحة. قال تعالى:
{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، قال ابن كثير رحمه الله: (أي : كلموهم طيبا ، ولينوا لهم جانبا ، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف).
وقال سبحانه: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} [الإسراء: 53].
من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في المصارحة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق الناس حديثًا، لا يُجامل على حساب الحق، ولا يسكت عن الخطأ، لكنه في ذات الوقت كان أحسن الناس خُلُقًا، وأرفقهم قولًا. فقد كان إذا أراد أن يُنبه على خطأ، قال:
"ما بال أقوام..."، فيُشير إلى الفعل دون أن يفضح الفاعل، وهذا من كمال أدبه صلى الله عليه وسلم، وفيه دروس في كيفية المصارحة دون إيذاء.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:إن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أوصني، قال: "لا تغضب". فردد مرارًا، قال: "لا تغضب" [رواه البخاري].
وهذه وصية جامعة تتضمن كذلك باب المصارحة، فالغضب من أسباب الإعراض والسكوت، والمصارحة تُطفئ كثيرًا من شرره.
المصارحة مع الاحترام
يجب أن نكون عونا للناس على المصارحة، ولا ينبغي أن نشدد عليهم إذا صارحونا بما في أنفسهم، ولو كانت الصراحة تعبيرا عن ضعف بشري يعتري النفس، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فإنه لما جاءه بشير بن الخصاصية رضي الله عنه يبايعه وافق بشير على كل شيء إلا الجهاد والصدقة، وكان مما قال يومئذ: أما الجهاد فإني رجل جبان وأخاف إن حضر القتال أن أخشع بنفسي فأفر فأبوء بغضب من الله. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا بشير: لا صدقة ولا جهاد فبم إذن تدخل الجنة؟". فبايعه بشير على كل شيء. (أخرجه أحمد في مسنده)، فانظر كيف احترم الرسول صلى الله عليه وسلم صراحة هذا الرجل ولم يعلق على وصفه نفسه بالجبن بلفظ يجرحه أو يؤذيه، وفي نفس الوقت صارحه بأن هذا ليس عذرا يمنعه من المبايعة على الجهاد والصدقة.
من ضوابط المصارحة في الإسلام
ليست المصارحة في الإسلام دعوة لفضح العيوب، أو التجريح، بل هي دعوة إلى النصح بلطف، والصدق بأدب. وقد قرر العلماء شروطًا وآدابًا للمصارحة الشرعية، منها:
- الإخلاص في النية: بأن يكون القصد إصلاحًا لا انتقامًا.
- الرفق في العبارة: لما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه".
- الستر والخصوصية: فإن النصيحة على الملأ فضيحة، كما قال الشافعي رحمه الله:"من وعظ أخاه سرًّا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه".
تـعمدّني بنصحك في انفـرادي | وجنبني النصيحة في الجماعه | |
فإن النصح بين الناس نوعٌ | من التوبيخ لا أرضى استماعه | |
وإن خالفتني وعصيت قولي | فلا تجزع إذا لم تعط طاعه | |
- اختيار الوقت المناسب: فالنفوس أقدر على تقبل الكلام حين تهدأ، وبعد زوال المؤثرات.
- العدل والإنصاف: فلا يُصارح الإنسان غيره بخطأ وهو يضخم الحدث، أو يتجاوز في التقدير.
من ثمرات المصارحة
- حماية العلاقات من التراكمات والقطيعة.
- تحقيق صفاء النفس وسلامة الصدر.
- نشر ثقافة الصدق والوضوح في المجتمع.
- ردع المخطئ بلطف، وتشجيعه على التوبة والإصلاح.
قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}[التوبة: 119].
إن المصارحة خلق إسلامي راقٍ، يدل على صفاء القلب، وصدق النية، وحرص على الإصلاح، ومن مارسها بحكمة، سلِم قلبه، واستقامت علاقاته. فعلينا أن نربي أنفسنا وأبناءنا على هذا الخلق الكريم، سائلين الله تعالى أن يجعلنا من الصادقين الناصحين، الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا" [رواه البخاري ومسلم].