الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مناهج العلماء في علاج ظواهر الانحراف الفكري

مناهج العلماء في علاج ظواهر الانحراف الفكري

مناهج العلماء في علاج ظواهر الانحراف الفكري

حظيت الأمة الإسلامية منذ فجرها الأول بحماية إلهية من التحريف في أصول دينها، ومع ذلك فإن الانحرافات الفكرية والعقدية والمنهجية لم تكن بعيدة عنها، فقد ظهرت منذ العصور الأولى فرقٌ وطوائف تأولت النصوص وحرفت المفاهيم، إلا أن الله سخّر لها العلماءَ الراسخين في العلم، حملوا على عاتقهم مسؤولية الذود عن حياض الإسلام، عبر مناهج علمية رصينة، وجهود دفاعية هائلة، فكانوا الحصن الحصين الذي حفظ للأمة دينها وسلامة منهجها.

وقد أدرك العلماء قديما أن الأديان عرضة للتحريف وأن الناس معرضون للانحراف، أدرك العلماء ذلك من خلال ما جرى للأمم السابقة التي تحرفت أديانها وانحرف أتباعها، فاندثرت معالم تلك الأديان ولم يبق على جادتها إلا القليل من الناس، ففهم العلماء من خلال ذلك أسباب الانحراف، ومداخله على النفوس، وعلموا أن الفكر يصلح بالفكر، وأن العلم يقوِّم كل اعوجاج ويصلح كل انحراف متى ما توافر قصد الحق، فكان العلماء في كل زمان أمَنةً على هذا الدين، يدفعون عنه الزيف، ويوجهون الناس نحو الاستمساك بالدين، ويبينون لهم ما اشتبه عليهم، ويحذرونهم من دعوات الانحراف ومظاهر الغلو.
خطورة الانحرافات الفكرية:
أخطر ظواهر الانحراف الفكري هي تلك الانحرافات المرتكزة حول فكرة دينية مغلوطة، وأن ذلك من أبرز أسباب الهلاك والشقاء، فهِمَ العلماءُ ذلك من خلال ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: (وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) رواه النسائي في السنن، ومما روى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون، قالها ثلاثاً) صحيح مسلم.
لأجل ذلك كرس العلماء قديما وحديثا جهودهم في دراسة هذه الظاهرة ووضع الحلول العاجلة والوقائية لها، والتصدي لكافة الانحرافات الفكرية ولا سيما الانحرافات التي ترتبط بسلوكيات متطرفة تجاه المخالف لها، لعلمهم بمخاطر ذلك، لما يدركونه من مخاطر ذلك ومآلاته الوخيمة، فهذا النوع من الانحراف يعرض أمن المجتمعات للاختلال، ويعرقل خطط التنمية، ويعوق سير الإعمار والبناء، ويربك خطط الإصلاح والتقدم، ويتسبب في اختلال النظام في كافة مجالات الحياة.
والانحراف قد يكون في الفكر وحده إذا لم يكن معه سلوك ينتج عنه، وقد يكون في السلوك وحده مع استقامة الفكر، وقد يكون فيهما معا، وقد يكون مجرد رأي، وقد يكون عقيدة عند الاقتناع به وتحرك الوجدان نحوه، وفي هذه الحالة يحتاج تعديله إلى حجة أقوى ومعالجة أشد، وإذا تمت معالجة الفكر استقام السلوك، وهذا منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فقد كانوا يستفتحون على أقوامهم بكلمات الإيمان، وتأسيس الاعتقاد، ثم تأتي التشريعات والتكاليف يسيرة على عليهم لان النفس تنقاد للعقل والفكرة.
مناهج العلماء في التصدي لظواهر الانحرافات:
حين نستعرض جهود العلماء في مجال معالجة الانحرافات الفكرية يمكن أن نلخص جهودهم في منهجين او اتجاهين رئيسيين: المنهج التقريري والمنهج النقدي، فهم يبدأون بتأسيس وتقرير الأصول والمحكمات الشرعية التي تمثل أساسا للتفكير الإسلامي، ثم يردون كل انحراف يخرج عن تلك الأسس والقطعيات الإسلامية المحكمة.
أولا: المنهج الوقائي التقريري: ويعتمد هذا الاتجاه على تقرير الأسس العلمية والقطعيات الشرعية، واتخاذ التدابير والإجراءات والأنشطة والبرامج العلمية والمجهودات المجتمعية المتكاملة لمواجهة الانحرافات الفكرية والسلوكية قبل حدوثها، ويتمثل ذلك في الأدوار الكبيرة التي يقوم بها العلماء في ترسيخ الفهم الصحيح للإسلام، وتثبيت مرجعية الكتاب والسنة في نفوس المسلمين، وضبط مسالك الاستدلال بهما وفق قواعد أصولية جرى عليها استقراءُ القرون وعملُ المسلمين قي كل عصر، مما يمثل تحصينا للمسلم من عواصف الشهوات والشبهات، وقد جاء في المثل السائد "درهم وقاية خير من قنطار علاج"، فكثير من جهود العلماء في التعليم الشرعي ومشاريع التربية الطويلة تأتي في إطار المنهج الوقائي للفرد والمجتمع من ظواهر الانحراف الفكري، من خلال غرس معالم الاعتدال وأسس الوسطية التي تتساقط على جنباتها كل نوازع الانحراف وبذور التطرف.

ومن أبرز النماذج الذين مثلوا هذا المنهج الإمام الشافعي رحمه الله (ت 204هـ) حيث عاش في فترة حرجة من تاريخ الأمة الإسلامية، حيث ظهرت في عصره عدد من الانحرافات الفكرية والعقدية والمنهجية، وقد واجهها بأسلوب علمي دقيق، وأسس من خلال كتاباته وأصوله منهجًا متينًا في ضبط الفهم الشرعي والاستدلال الصحيح، فواجه بذلك إشكالية الاضطراب في طرق الاستنباط الفقهي، وقرر مبدأ تقديم النص على الرأي، وضبط استخدام القياس، ودعا إلى نبذ الغلو في المناهج الكلامية لإثبات العقائد التي شاعت في زمنه، وانتصر لحجية السنة أمام الأفكار التي تدعو إلى عدم الاحتجاج بخبر الآحاد.
وفي هذا الصدد يضع العلماء في هذا العصر كثيرا من النصائح والتوجيهات التي تفيد ولاة أمور المسلمين في هذا الاتجاه الوقائي، فهم يركزون على المطالبة بإيجاد البيئة الصحية الحاضنة للشباب، من خلال مراكز الاهتمام بالقرآن وعلومه، وبرامج الوعي الإسلامي، والمناشط التي تجمع بين الاستجمام والتربية، ومركزية الأسرة في التربية، إضافة إلى مشاريع محاربة الفقر والبطالة، وحماية الأسرة من عوامل التأثير السلبية، والحد من شيوع المنكرات وفساد البيئة الاجتماعية، كل هذا وغيره يندرج ضمن المنهج الوقائي من مشاريع الانحراف والاستقطاب السلبي لأعمال التطرف.
ومما يندرج في المنهج الوقائي: تبني قضايا الأمة العادلة، وتقديم الرؤية الصحيحة، إذ إن السلبية نحو الأحداث المهمة من أهل العلم والرأي يعطي المساحة لضعفاء الوعي بأبعادها فيخوضون فيها بجهل أو بسوء قصد، ويتم استغلال الحماس لتغذية الانحرافات الفكرية، ولذلك كان من الخطأ البالغ أن يستبعد العلماء الراسخون وأهل الرأي والنصح عن قضايا الأمة، وحصر جهودهم في القضايا الهامشية في كثير من البلدان، فيغيب صوت العلم عن أهم القضايا، فيعمل المغرضون على التحريض ضدهم، واتهامهم بالخيانة، ومن ثم يوجهون الشباب نحو مسالك التطرف، ثم يقال بعد ذلك أين العلماء عن هذا الانحراف الفكري والتطرف الديني!!
ثانيا: المنهج الوصفي النقدي: حيث يتمثل هذا المنهج بجهود كبيرة للعلماء والمصلحين في توصيف الانحرافات الفكرية، وتحرير الإشكال فيها، وبيان الدوافع والمظاهر، والقيام بالرودد العلمية على تلك الانحرافات حتى يتعرف المسلم على بعض مظاهر الانحراف ويتخذ منها الموقف الصحيح، وفي هذا المسار صنف العلماء قديما وحديثا في المقالات والفرق التي انحرفت، وبينوا أصولها التي انحدرت منها، ومنشأ الغلط عند كل فرقة.
وفي هذا العصر كَتبَ العلماءُ الكتب والبحوث العديدة وأقاموا الندوات والمؤتمرات في توصيف الانحرافات الفكرية المعاصرة والتحذير منها، ولا سيما تلك الانحرافات المرتبطة بسلوكيات العنف والتطرف، فاهتم العلماء في هذا الصدد بتحرير المصطلحات المرتبطة بالانحراف الفكري والتطرف والإرهاب؛ لما في ذلك من أثر في توجيه الاهتمام نحو الإشكال الحقيقي ومعالجته، فمعركة المصطلحات اليوم تعد من أبرز سمات العصر، فالكلمة ليست مجرد أداة لوصف الواقع، بل قد تُستخدم لتشكيله أو تزويره في هذا الصراع، قد يكون اختيار الكلمة أو المصطلح بمثابة اتخاذ موقف أو انحياز.
ومن أكثر المصطلحات المعاصرة التي تستخدم بطريقة أيدلوجية موجهة هو مصطلح الإرهاب وما يتعلق به كالتطرف والانحراف الفكري وغيره، ويأتي في مقدمة جهود العلماء في معالجة هذه القضايا تحرير المصطلحات، وفهم مدلولها اللغوي، ونقد الاستعمالات الخاطئة التي تستبطن توجيه المصطلح نحو فكرة ثقافية أو سياسية، يتم من خلالها التلاعب بالحقيقة وتكييفها وفق القناعة المسبقة.
وتأتي الجهود الوقائية والوصفية في إطار المعالجة للانحرافات الفكرية، ومحاولة السيطرة على الفكرة من أول مراحلها؛ لأن الانحراف السلوكي المرتبط بالعنف إنما هو محصلة نهائية للانحراف الفكري حين توجد البيئة الحاضنة للشبهات المضلة، وينحسر دور التوعية والتأصيل المنهجي.

ومن أبرز من يمثل هذا المنهج من العلماء في القرن الثامن الهجري هو شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ) الذي لا تخطؤه العين في معركة الانحرافات الفكرية والعقدية، حيث يُعد من أبرز النماذج العلمية المتكاملة التي خدمت الإسلام عبر العصور، فقد واجه في زمانه انحرافات عقدية وفكرية ومنهجية خطيرة، وتصدّى لها بطريقة علمية متزنة، جمعت بين قوة الحجة، والرجوع إلى النصوص، ومراعاة مقاصد الشريعة، والربط بين النقل والعقل.
ومما يميز منهجه في التعامل مع الانحرافات الفكرية هو تمكنه من فهم المقالات والأفكار قبل الرد عليها، فهو يقوم ببيانها كما هي في أدبيات الفرق ثم يقوم بكشف انحرافها والرد عليها، حتى كان يمتلك نواصي الفهم لتلك المقالات أكثر من أصحابها في بعض الأحيان، وهذا ملمح ينبغي الاعتناء به لكل من يعمل اليوم في معالجة الانحرافات الفكرية أن يبدأ بتصور الانحراف على حقيقته دون تهويل ولا تبرير، وأن لا يعتمد على نقل الأقوال والأفكار عبر مصادر وسيطة، فيقع في الخطأ في عزوها وفهمها.
لقد واجه ابن تيمية في زمنه كثيرا من الانحرافات الفكرية الخطيرة، كالفلسفة اليونانية التي أثّرت في العقائد من خلال التأويل العقلي للنصوص، والفرق الباطنية الغالية، والصوفية الشاطحة مثل الاتحادية والحلولية، وواجه الغلو في الأولياء وتعظيم القبور وانتشار مظاهر الشركيات، والانحرافات في باب الإلهيات والنبوة والسمعيات، وكان يجمع بين العلم والعدل في ردوده وخصوماته الفكرية، وكان يدرك الفروق بين تلك الفرق، فيرتب الأولويات ويبدأ بالأهم فالمهم، بناء على خطورة الانحراف وتعلقه بالأصول القاطعة، ويعذر في الظنيات والاجتهادات بعقل راسخ وفكر متزن.
ولا تزال هذه الأمة ولادة للعلماء الراسخين، الذين يحملون الدين وينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، ويتصدون بمجموعهم للانحرافات الفكرية المتنوعة والكثيرة، فاهتم فريق منهم بمواجهة الدعوات الإلحادية وكرسوا جهودهم في ذلك تقريرا للعقيدة الإسلامية المتمثلة بالإيمان بالغيب، وتوعية للجيل ببطلان تلك الدعوات التي لا تقف على أساس علمي ولا منطقي، ومنهم من واجه التغريب الذي يسعى إلى صبغ الحياة بالثقافة الغربية المادية، وإخضاع الجيل لقيم الغرب في كل مناحي الحياة، وهذا من أعظم الانحرافات التي تواجه وجود المسلمين اليوم على كل المستويات، ومنهم من واجه الانحراف المتعلق بالاعتقادات الباطنية التي تدعو لتأليه الأئمة واعتقاد عصمتهم واستهداف تاريخ صدر هذه الأمة بالطعن والشتيمة، ومنهم من يواجه الانحرافات المتعلقة بالطعن في المصادر الإسلامية، ولا سيما الطاعنون في السنة النبوية والمشككون في حجيتها،إلى غير ذلك من الانحرافات التي كان لها في هذا العصر انتشارا واسعا، ولم يبق الأمر في دائرة الأفراد من العلماء بل تأسست المراكز البحثية، والجامعات الشرعية، والقنوات والمحاضن المتخصصة في معالجة الانحرافات التي طالت كل المحكمات والمسلمات الفكرية والعقدية والمنهجية.

وهكذا لو استعرض القارئ الكريم التاريخ والواقع لوجد أن العلماء قد سجلوا الجهد الأعظم في الحفاظ على الإسلام، وكانوا جند الله في ذلك؛ لأنه قد تكفل بحفظ أصول الإسلام، وهم طليعة المسلمين في معالجة ظواهر الانحراف الفكري، فكلما حدث انحراف قيض الله له من عباده من يكشف زيفه ويبين انحرافه، وعلى المسلم أن يكون جزءا من هذه المعركة من خلال السعي للوصول إلى مرتبة العلماء، وإلا بنصرتهم وتعزيز موقفهم، وتمكينهم من بلاغ رسالتهم، ما لم يستشعر المسلمون ذلك أفرادا ومجتمعات فإن العلم يذهب بذهاب العلماء، ويتمدد الانحراف ويتكاثر على قدر غيابهم وإضعاف مكانتهم في المجتمع.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

نوافذ عقدية

المناجاة ليلة القدر

ليلة القدر أعظم ليالي شهر رمضان، بل هي أعظم ليالي السنة، جعلها الله سبحانه وتعالى خيرًا من ألف شهر، تتنزل فيها...المزيد