الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

من أسباب ترك السماحة

من أسباب ترك السماحة

من أسباب ترك السماحة

قيض الله لحفظ الدين وبيان أحكامه أئمة أعلاما، وأفاضل كراما، خلفوا الرسول صلى الله عليه وسلم في أمته، وأحيوا ما مات من سنته، وبينوا للناس مراد الله من خلقه، وأحكامَه في شريعته، ونفوا عن الدين انتحال المبطلين، وتحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، فقاموا بحق الله في هذا حق القيام.

غير أن الجهل بمآخذهم في الاستدلال، وطرقهم في الفهم، ومناهجهم في الاستنباط، وتفاوتهم في ذلك، نتج عنه شيء من الاختلاف في الآراء والتباين في الأحكام ـ وهو شيء لابد منه ولا محيص عنه ـ يقبله كل من له عقل وفهم واشتغل بمعالجة مثل هذه الأمور، وإدراك هذا مما يريح القلب ويسكن الفؤاد، والجهل به يفتح على صاحبه أبواب الطعن في الأئمة والوقوع فيهم، وسوء الظن بهم.

وقد بين السادة العلماء مآخذ الفقهاء ومناهجهم، وبينوا طرق استدلالهم، وكذلك أسباب اختلافهم، واعتذروا لهم بعد حسن الظن فيهم، وأنهم جميعا كانوا يطلبون الحق ورضا الرب.
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: "فلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَقْبُولِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ قَبُولًا عَامًّا يَتَعَمَّدُ مُخَالَفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ سُنَّتِهِ؛ دَقِيقٍ وَلَا جَلِيلٍ، فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ اتِّفَاقًا يَقِينِيًّا عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ، إلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولَكِنْ إذَا وُجِدَ لِوَاحِدِ مِنْهُمْ قَوْلٌ قَدْ جَاءَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ بِخِلَافِهِ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ عُذْرٍ فِي تَرْكِهِ"..

وقد ذكر الإمام ابن تيمية في كتابه الماتع "رفع الملام عن الأئمة الأعلام"، أعذار الأئمة والعلماء والمجتهدين في ترك العمل ببعض الأحاديث، وفرع علي ذلك أسباب الاختلاف بينهم، فقال رحمه الله ما مختصره:

وَجَمِيعُ الْأَعْذَارِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ:
أَحَدُهَا: عَدَمُ اعْتِقَادِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ.
وَالثَّانِي: عَدَمُ اعْتِقَادِهِ إرَادَةَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِذَلِكَ الْقَوْلِ.
وَالثَّالِثُ: اعْتِقَادُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ.

وَهَذِهِ الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ تَتَفَرَّعُ إلَى أَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ:
السَّبَبُ الْأَوَّلُ: أَلا يَكُونَ الْحَدِيثُ قَدْ بَلَغَهُ
وَهَذَا السَّبَبُ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَكْثَرِ مَا يُوجَدُ مِنْ أَقْوَالِ السَّلَفِ مُخَالِفًا لِبَعْضِ الْأَحَادِيثِ، فَإِنَّ الْإِحَاطَةَ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَكُنْ لِأَحَدِ مِنْ الْأُمَّةِ.. وما منهم من أحد إلا فاته شيء من سنته، كما في قصة أبي بكر وميراث الجدة، وفي قصة عمر وحديث الاستئذان، وفي قصة عثمان وعدة المتوفى عنها زوجها، وعلي رضي الله عنه، وعدة الحامل.. هذا مع عظيم علمهم، ومزيد فضلهم، وتقدمهم على كل من بعدهم.
وهذا أمر لا ينفك أحد عنه، فليس أحد أحاط بكل العلم ولا بحفظ واستحضار كل الأحاديث، ولذلك فإنه لعدم بلوغه الحديث يجتهد بما عنده من أدلة وأدوات، فربما يُوَافِقُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ تَارَةً، أو َيُخَالِفُهُ أُخْرَى، وهو لا شك معذور في ذلك.

السبب الثاني: ألا يثبت الحديث عِندَه
لوروده إليه من طريق لا يصلح الاستدلال بمثله، وأسباب عدم القبول أو عدم الثبوت كثيرة، ذكرها علماء المصطلح في صفة الحديث المردود، بينما يكون هذا الحديث قَدْ بَلَغَ غَيْرَهْ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ غَيْرِ تِلْكَ الطُّرُقِ، فَتَكُونُ حُجَّةً لمن بلغته دون من لم تبلغه. ولهذا علق كثير من الأئمة الْقَوْل بِمُوجِبِ الْحَدِيثِ عَلَى صِحَّتِهِ، كما ثبت عن الشافعي وغيره قولهم: "إذا صح الحديث فهو مذهبي".

السبب الثالث: اختلافهم في شرائط قبول خَبَرِ الْوَاحِدِ
كاشتراط الشهرة، وعدم مخالفة الأصول، وغيرها مما اختلفوا في اشتراطه، فيختلف حكمهم عليه قبولا وردا تبعا لهذه الشرائط.

السبب الرابع: نسيان بعض الأحاديث
أو ذهول الإنسان عنها وقت الحاجة للاستدلال بها، وهذا أيضا مما لا يستغرب، وقد حدث لبعض الأكابر، كما حصل لعمر بن الخطاب في حديث التيمم حتى ذكره به عمار بن ياسر، رضي الله عنهما. ونسي عمر وبعض المسلمين الآية عند موت رسول الله حتى ذكرهم أبو بكر بها {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144]، ونسي الزبير حديثا ذكره به علي فرجع عن قتاله رضي الله عنهما.

السبب الخامس: اختلاف دلالات الأدلة
كلفظ القرء في الآية {ثلاثةَ قُرُوء}، وهل هي الأطهار أو الحيضات؟ وكذا ألفاظ "الْمُزَابَنَةِ" وَ"الْمُخَابَرَةِ"، و"الْمُحَاقَلَةِ" وَمثلها "الْمُلَامَسَةِ" و"الْمُنَابَذَةِ" و"الْغَرَرِ" في الحديث، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكَلِمَاتِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي قَدْ يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِهَا. فربما قويت الدلالة على إحدى المعاني عند أحدهم، ورأى غيره الدلالة في المعنى الآخر فاختلفت لذلك الأقوال.

وَتَارَةً يكون الاختلاف بسبب كَون مَعنى اللفظ فِي لُغَة العالم وعُرْفِهِ غَيْرَ مَعنَاهُ فِي لُغَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَحْمِلُهُ عَلَى مَا يَفْهَمُهُ فِي لغته؛ كما وقع لبعض العلماء في فهم معنى "النبيذ"، وكذلك "الخمر"، فأفتوا على حسب معناها في لغاتهم.
وَتَارَةً لِكَوْنِ اللَّفْظِ مُشْتَرِكًا، أَوْ مُجْمَلًا؛ أَوْ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ؛ فَيَحْمِلُهُ عَلَى الْأَقْرَبِ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْآخَرَ. وهذا أيضا باب واسع يكثر بسببه الاختلاف بين العلماء والمجتهدين.

السبب السادس: اعْتِقَادُه أَن لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ
إما أنه لا يرى فيه دلالة أصلا، كأن يَعْتَقِدَ أَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، أو أَنَّ الْمَفْهُومَ لَيْسَ بِحُجَّةِ، أو أَنَّ الْعُمُومَ الْوَارِدَ عَلَى سَبَبٍ مَقْصُورٌ عَلَى سَبَبِهِ، أَوْ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُجَرد لَا يَقتَضِي الْوُجُوبَ؛ أَوْ لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ، أَوْ أَنَّ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ لَا عُمُومَ لَه.. وهذه كلها مسائل معروفة عند الأصوليين، يختلف الناس في القول ببعضها دون البعض، فينتج عن ذلك اختلاف في العمل بهذا الدليل أو عدم الاعتداد به.

السبب الثامن: اعْتِقَادُهُ وجود معارض قوي يعارض الدليل
مِثْلَ مُعَارَضَةِ الْعَامِّ بِخَاصِّ، أَوْ الْمُطْلَقِ بِمُقَيَّدِ، أَوْ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ بِمَا يَنْفِي الْوُجُوبَ، أَوْ الْحَقِيقَةَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَجَازِ، إلَى أَنْوَاعِ الْمُعَارَضَاتِ. وَهُوَ بَابٌ وَاسِعٌ أَيْضًا؛ فَإِنَّ تَعَارُضَ دَلَالَاتِ الْأَقْوَالِ وَتَرْجِيحَ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ بَحْرٌ خِضَمٌّ.

وقد ذكر شيخ الإسلام أسبابا أخرى للاختلاف، كخوف معارضة إجماع لم يثبت، أو وجود أصول للاستدلال تختلف من إمام لآخر كعمل أهل المدينة عند الإمام مالك، والعمل بالمرسل عند من يقول به، ونحو ذلك مما تختلف أصول الأئمة والمذاهب فيه.

وبالجملة فإن هذا باب واسع، وكلما رسخ الإنسان فيه علما كلما اتسع صدره وانفسح وانشرح، واعتذر للأئمة ـ وإن كان يرى قول غيرهم أقوى من قولهم.. فالأصل هو اتباع ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطروء الخطأ على العالم أولى من طروئه على الدليل، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كنتم تؤمنون بالله واليومِ الآخر} [النساء: 59].

والإنسان إن كان من أهل الاجتهاد فقال قولا بذل فيه جهده، وأعمل فيه فكره، ولم يقصر في طلب الحق فهو مثاب أصاب أو أخطأ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ)[متفق عليه].
وقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْماً} [الأنبياء:78ـ79]، فَاخْتَصَّ سُلَيْمَانَ بِالْفَهْمِ؛ وَأَثْنَى عَلَيْهِمَا بِالْحُكْمِ وَالْعِلْمِ.

فنسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعل صدورنا صافية لجميع المسلمين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة