الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

في ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم

في ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم

في ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، المبعوث رحمةً للعالمين، وحجةً على الناس أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أيها المسلمون، يقول الله تعالى: {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا} [الفتح:8-9]. هذه الآيات الكريمة تُبيِّن المقام الرفيع الذي خصَّ الله به نبيه صلى الله عليه وسلم، وتدلُّ على أن الإيمان الحقّ لا يتم إلا بتعظيمه وتوقيره ونصرته واتباعه، فهو الشاهد على أمته، والمبشّر برحمة الله، والنذير من عذابه.

لقد تضمنت كلمة الشهادة التي يدخل بها العبد الإسلام توحيدين عظيمين:

الأول: توحيد العبادة لله سبحانه وتعالى، فلا معبود بحقٍّ سواه.

الثاني: توحيد الاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم، فلا طريق إلى رضا الله إلا باتباعه.

شهادة أن محمداً رسول الله تعني الإيمان به وتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يُعبد الله إلا بما شرع.

أيها الأحبة في الله، إن مقام النبي صلى الله عليه وسلم في قلوب المؤمنين عظيم، وحرمته محفوظة، ومحبته واجبة، ومن أركان الإيمان أن يكون أحبَّ إلى العبد من نفسه وماله وولده والناس أجمعين. لقد أدرك الصحابة رضي الله عنهم هذه الحقيقة، فكان حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم صادقاً عميقاً، لا تزييف فيه ولا ادعاء. سُئل عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه عن حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كان والله أحبَّ إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ". وتأملوا موقف خُبيب بن عدي رضي الله عنه لما أسره المشركون وصلبوه، فقالوا له: أتحب أن محمداً عندنا الآن مكانك، وأنك سالم في أهلك؟ فقال: "والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وأنا جالس في أهلي". وشهد أبو سفيان رضي الله عنه بعد ذلك، وهو يومئذٍ على الشرك فقال: : "ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحبِّ أصحاب محمدٍ محمداً". هكذا كانت محبتهم، محبةً تُترجم إلى طاعةٍ واتباعٍ، واقتداء واهتداء، وتضحيةٍ وبذلٍ.

أيها المسلمون: المحبة الحقيقية للنبي صلى الله عليه وسلم ليست كلماتٍ تُقال، ولا مشاعرَ تُستثار عند ذكره فحسب، وإنما هي تصديقٌ له فيما جاء به، واتباعٌ لهديه، والتمسك بسنته، والاقتداء بفعله وقوله. فمن أحب النبي صلى الله عليه وسلم حقًّا أطاعه، ومن عظَّمه اتبع أمره واجتنب نهيه، كما قال الله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم} [آل عمران:31].

من مظاهر تعظيمه صلى الله عليه وسلم توقيره بالأدب معه ومع سنته، وعدم رفع الصوت فوق صوته، أو ردّ قوله بقول أحدٍ من الناس، فقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [الحجرات:2]. فالتعظيم الظاهر هو ثمرة لتعظيمِ القلب، ومن أكرمه الله بتوقير النبي وتعظيمه رزقه حبَّ سنته والغيرة عليها، والابتعاد عن كل ما يخالفها أو يعارضها .

عباد الله: إن حياة النبي صلى الله عليه وسلم كانت تطبيقاً عملياً للقرآن الكريم، فكان خلقه القرآن، وكان منار هديه واضحاً لمن أراد الاقتداء، فما ترك خيراً إلا دلَّ الأمة عليه، ولا شراً إلا حذرها منه. فمحبته تقتضي إحياء سنته، ونشر سيرته، والدعوة إلى هديه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يكون المؤمن متخلقاً بأخلاقه، رفيقاً كما كان، رحيماً كما وصفه ربه بقوله: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} [التوبة:128].

ومن تعظيمه صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه كلما ذُكر، امتثالاً لأمر الله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} [الأحزاب:56]. فهي علامة محبةٍ صادقة، وتعبيرٌ عن شكرنا لنعمة الله علينا بإرساله . قال صلى الله عليه وسلم: (البخيل الذي من ذُكِرُت عنده فلم يصلِّ عليَّ) رواه الترمذي. فليحرص المسلم على الإكثار من الصلاة والسلام عليه في كل حين، فهي سبب لرفعة الدرجات ومغفرة الذنوب، ومرافقة الحبيب في الجنة.

أيها الإخوة: لقد رفع الله ذكر نبيه في العالمين، فلا يُذكر الله إلا ويُذكر معه، قال تعالى: {ورفعنا لك ذكرك} [الشرح:4]. فصار اسمه مقروناً بالأذان والإقامة والخطب والصلوات، وما من مؤمنٍ إلا ويدعو له في صلاته كل يوم مراتٍ عديدة، فهو حيٌّ في قلوب المؤمنين بسنته وسيرته، وليس بحاجةٍ إلى مظاهر مخترعة أو مواسم مبتدعة تخصص لإظهار محبته؛ لأن المؤمن الصادق يحيي ذكره في كل وقتٍ بتجديد اتباعه له.

أيها الأحبة، إن واجب الأمة اليوم أن تتعلم سيرة نبيها صلى الله عليه وسلم، لا من باب الحكايات والعواطف العابرة، بل من باب الاتباع والتأسي؛ ليكون ذلك دليلاً على صدق المحبة. فالمؤمن الحق هو الذي يجعل من سيرته منهجاً لحياته، ومن أقواله نبراساً له في سلوكه وأخلاقه وتعاملاته، ويستحي أن يُرى على خلاف ما دعا إليه نبيه الكريم عليه أفضل الصلاة وأتمُّ التسليم.

فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم يكون بحفظ سنته ونشر علمه، والدفاع عن شريعته، وإحياء ما اندرس من هديه في البيوت والأسر والمجتمعات. فمن أراد أن يعرف قدر نفسه من محبته فليعرضها على طاعته واتباعه، فمن أطاعه فقد أحبه، ومن خالفه فقد جفاه، كما قال بعض السلف: "علامة المحبة الموافقة في الأقوال والأفعال".

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه أجمعين.

عباد الله: إن مما يثير الحمية في النفس لسنة النبي عليه الصلاة والسلام ولشخصه الكريم ما يراه المسلم من هجمات أهل الكفر والزندقة والانحلال والنفاق في هذا العصر على نبينا صلى الله عليه وسلم وسنته، لأجل المسِّ بهذا الدين الحنيف والنيل من السُّنَّة المشرَّفة، وتصدر الكتب التي تبث الشبهات حول نبينا صلى الله عليه وسلم ونبوته وسنته وسيرته.

أيها الإخوة! تتزامن الأحداث ليكتشف المسلم أين هي المحبة الحقيقة للنبي عليه الصلاة والسلام، وأين الشهامة للدفاع عنه وعن سنته وعن شخصه الكريم صلى الله عليه وسلم؟

أيها الكرام! نحتاج إلى دعوة صادقة وتعليم للسنة، وبيان لمعاني الدين، وحقوق رسولنا الكريم، فلا بد من الحذر والعلم والبيان، وهذه وظيفة أهل العلم.

وعلى الله قصد السبيل، والحمد لله رب العالمين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

خطب الجمعة

ومضى شهر رمضان

الخطبة الأولى الحمد لله، حمداً كثيراً، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك القدوس السلام، ونشهد أن نبينا...المزيد