الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

رمضان مدرسة لتجديد الإيمان

رمضان مدرسة لتجديد الإيمان

رمضان مدرسة لتجديد الإيمان

الخطبة الأولى:

الحمد لله يمن على عباده بمواسم الخير سروراً وأفراحاً، ويدفع عنهم أسباب الردى شروراً وأتراحاً، نحمده تعالى ونشكره شكراً يتجدد ويتألق غدواً ورواحاً، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مبدع الكائنات، ونشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، الهادي إلى طريق الرشاد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها المسلمون: أرأيتم بماذا تقاس أفراح المؤمنين؟ إنها أفراح علوية، ومسرات روحية، تطلق النفوس من قيد المطامع الشخصية، وتحررها من أسر الأغراض المادية، لتحلق بها في آفاق أسمى، وتترقى بها في طموحاتٍ أعلى، لذلك كانت أفراح أهل الإيمان عن الملذات تتسامى، وعن المشتهيات تترفع وتتعالى، أفراح المؤمنين تتجدد بتجدد مواسم الخير والعطاء، ومناسبات الطهر والصفاء، والمحبة والمودة والإخاء، والبر والسعادة والهناء.

عباد الله: يا لها من فرحة غامرة تعيشها الأمة الإسلامية هذه الأيام، فهي إزاء دورة جديدة من دورات الفلك السيار، والزمن الدوار، وإن في مرور الليالي والأيام لعبراً، وفي تصرم الشهور والأعوام لمزدجراً ومدكراً.

تمر الأيام وما أسرعها! وتمضي الشهور وما أعجلها! ويطل علينا موسمٌ كريم، وشهر عظيم، ويفد علينا وافدٌ حبيب وضيف عزيز، بعد ساعاتٍ معدودات، يهل علينا شهر رمضان المبارك بأجوائه العبقة، وأيامه المباركة الوضاءة، ولياليه الغر المتلألئة، ونظامه الفريد المتميز، وأحكامه وحِكَمه السامية.

هو من أفضال الله على هذه الأمة لما له من الخصائص والمزايا، ولما أعطيت فيه أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم من الهبات وخصت فيه من الكرامات، ففي "الصحيحين" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء رمضان فُتِّحَتْ أبواب الجنة، وغُلِّقَتْ أبواب النار، وصُفِّدت الشياطين) رواه مسلم.

فيا لها من فرصة عظيمة، تصفو فيها النفوس، وتهفو إليها الأرواح، وتكثر فيها دواعي الخير، تفتح الجنات، وتتنزل الرحمات، وترفع الدرجات، وتغفر الزلات، وتحط الخطيئات، يجزل الله فيها العطايا، ويفتح أبواب الخير لكل راغب، ويعظم أسباب التوفيق لكل طالب، فلله الحمد والشكر على جزيل نعمائه، وترادف مننه وآلائه.

معاشر المسلمين: إن الأفراد والأمم محتاجون لفترات من الراحة والصفاء لتجديد معالم الإيمان، وإصلاح ما فسد من أحوال، وعلاج ما جد من أدواء، وشهر رمضان هو المدرسة التي تجد فيها هذه الأمة فرصة لاستجلاء تأريخها، وإعادة أمجادها، وإصلاح أوضاعها.

إنه محطة لتعبئة القوى الروحية والخلقية التي تحتاج إليها الأمة، بل يتطلع إليها كل فردٍ، مدرسة لتجديد الإيمان، وتهذيب الأخلاق، وتقوية الأرواح، وضبط الغرائز، وكبح جماح الشهوات، ومضمار يتنافس فيه المتنافسون للوصول إلى قمم الفضائل، ومعالي الشمائل، وبه تتجلى وحدة الأمة الإسلامية.

الصيام مدرسة للبذل والجود والبر والصلة، وهو حقاً مَعين الأخلاق ورافد الرحمة، ومنهلٌ عذبٌ لأعمال الخير.

فما أجدر الأمة وهي تستقبل شهرها أن تقوم بدورها! وتحاسب نفسها! وتراجع حساباتها! وتعيد النظر في مواقفها. ما أحوجها إلى استلهام حِكَم الصيام، والاستفادة من عطاءاته، وجني ثمراته.

معاشر المسلمين: بماذا عسانا أن نستقبل شهرنا الكريم؟

الناظر في واقع الناس اليوم إزاء استقبال رمضان يجدهم أصنافاً متعددة.

فمنهم وهم قليل من لا يرى فيه أكثر من حرمانٍ لا داعي له، وتقليدٍ لا مسوغ له، بل قد يرفع عقيرته مدعياً أنه قيودٌ ثقيلة وطقوسٌ كليلة تجاوزها عصر الحضارة، ورَكْبُ المدنية الحديثة.

ومنهم من يرى فيه موسماً سنوياً للموائد الزاخرة باللذيذ المستطاب من الطعام والشراب، وفرصة سانحة للسمر والسهر واللهو إلى هجيعٍ الليل، بل إلى بزوغ الفجر، يتبع ذلك استغراق في نومٍ عميق نهاراً، فإذا كان من ذوي الأعمال تبرم بعمله، وإذا كان من أصحاب المعاملات ساءت معاملاته وضاق عطنه، وإذا كان موظفاً ثقل عليه الالتزام بأداء مسؤولياته، وقلَّ إنتاجه.

وفي الأمة وهم الأكثرون من يرى في رمضان غير هذا كله، وأجلَّ منه جميعه، يرون فيه دورة إيمانية تدريبية لتجديد معانٍ عظيمة في النفوس، من الإيمان العميق، والخلق القويم، والصبر الكريم، والعمل النبيل، والإيثار الجليل، والإصلاح العام للأفراد والمجتمعات.

عباد الله: إن استقبالنا لرمضان يجب أن يكون بالحمد والشكر لله، والفرح والاغتباط بهذا الموسم العظيم، {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس:58).

والحرص على التوبة من جميع الذنوب، والخروج من المظالم، وأداء الحقوق إلى أصحابها، وفتح باب المحاسبة الجادة للنفوس، والمراجعة الدقيقة للمواقف، والعمل على الاستفادة من أيامه ولياليه، بهذا الشعور والإحساس يتحقق الهدف المقصود، والاستفادة الحقيقية من شهر العمل والجود.

أما أن يدخل رمضان ويراه بعض الناس تقليداً موروثاً وأعمالاً صورية محدودة الأثر، ضعيفة العطاء، بل لعل بعضهم يزداد سوءاً وانحرافاً، فذلك خروج بالعبادة عن مقصودها، وعبثٌ شيطاني، له عواقبه الوخيمة على الفرد والمجتمع، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه) متفق عليه.

فالله الله عباد الله في الجِدِّ والتشمير دون استثقالٍ لصيامه! واستطالة لقيامه، واستبطاءٍ لأيامه! وحذار من الوقوع في نواقضه ونواقصه! أو تعاطي مفطراته الحسية والمعنوية! وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري.

جاء شهر الخيرات بالبركات *** فأكرم به من زائرٍ هو آت

فالذين يستقبلونه على أنه شهر جوعٍ ونومٍ، وحرمانٍ نهاري، وشبع وسهر ليلي، وأعمالٍ وأقوالٍ لا تجاوز اللسان، ولا يعمر بها جنان، لن يستفيدوا من عطاءاته، ولن ينهلوا من خيراته.

وأما الذين يستقبلونه على أنه مدرسة لتجديد الإيمان، ومحطة لتهذيب الأخلاق، وزاد لتقوية الأرواح، وانطلاقة جادة لحياة أفضل، ومستقبلٍ أكمل، فهؤلاء هم المستثمرون على الحقيقة، قد غذوا السير وأعدوا العدة، هؤلاء هم الخليقون بالرحمات، الجديرون بالعطايا والهبات، المبشرون بروح الجنات، هؤلاء هم المعول عليهم بعد الله في صلاح الأوضاع، وإسعاد المجتمعات، ومواجهة التحديات.

والواجب علينا شكر نعمة الله على ما نعيشه من أمنٍ وأمان، وأن نقدم لإخواننا المسلمين المضطهدين ما نستطيعه من دعاءٍ وبذل وعطاء، ولا سيما من ذوي المال واليسار، في تلمس احتياجات إخوانهم الذين تربطهم بهم عقيدة الإسلام، كيف لا وقد حلَّ فينا شهر الخير والبركة، وهو شهر الجود والبذل والعطاء، فلنتحسس إخواننا المحتاجين من قريبٍ وبعيد، فنمدُّ لهم يد العون.

شهر رمضان فرصة للإقلاع والندم والتوبة والإنابة، ومدرسة الصبر والتحمل وقوة الإرادة، فلنبادر إلى الكف عن الوقوع في المحرمات في حقوق الله أو في حقوق العباد، ولا سيما وأجواء الشهر مهيئة لذلك معينة عليه، فالعمر قصير، والأجل يأتي بغتة، والقبر صندوق العمل.

أقول ما سمعتم...وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم.

الخطبة الثانية

عباد الله: عليكم بتقوى الله في السر والعلن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران:102).

معاشر المؤمنين: اعلموا أن إدراك شهر رمضان نعمة عظمى، فكم من أناسٍ حال بينهم وبينه هاذم اللذات ومفرق الجماعات، وقد كان صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدوم شهر رمضان، يستحث بذلك عزائم المؤمنين، ويستنهض هممهم للإقبال على طاعة ربهم، ويشوقهم ويرغبهم فيما عنده من الفضل العظيم؛ في الحديث عن سلمان رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يومٍ من شعبان، فقال: (أيها الناس! قد أظلكم شهرٌ كريم مبارك، شهرٌ فيه ليلة خيرٌ من ألف شهر) رواه ابن خزيمة.

أتى رمضان مزرعة العباد *** لتطهير القلوب من الفساد

تأسوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم، فقد كان إذا جاء رمضان استعد له، لا بالمآكل والمشارب، بل بالطاعة والعبادة والجود والسخاء، فإذا هو مع ربه العبد الطائع والمنيب الخاشع، ومع عباده الرسول السخي الجواد الكريم: (كان عليه الصلاة والسلام أجود بالخير من الريح المرسلة) متفق عليه.

أيها المؤمنون: استعدوا لشهر رمضان، واستقبلوه بالخير والعمل الصالح.

إذا رمضان أتى مقبلاً *** فأقبل فبالخير يستقبل

أعدوا أنفسكم للتخلق بأخلاقه، والاستفادة من حكمه وأسراره، فيا من يريد تجارة لن تبور، ورزقاً لا ينفد، وربحاً لا يحد ولا يعد! في هذا الشهر تدرِك، وبالصيام فيه تلحق بركب الفائزين، سوق الخير فيه نُصبت فأين المتاجرون؟ وساحة العفو اتسعت فأين المتنافسون؟ وأبواب الجنة فتحت فأين الراغبون؟ وأبواب النار قد أغلقت فأين التائبون؟

صلوا وسلموا على خير البرية وأزكى البشرية نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

خطب الجمعة

ومضى شهر رمضان

الخطبة الأولى الحمد لله، حمداً كثيراً، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك القدوس السلام، ونشهد أن نبينا...المزيد