الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

قيامة الإنسان الصغرى والكبرى

قيامة الإنسان الصغرى والكبرى

 قيامة الإنسان الصغرى والكبرى
الحمد لله الذي قدر الأقدار وكتب المقادير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا. أوصيكم عباد الله ونفسي المخطئة بتقوى الله: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ‌ٱللَّهَ ‌حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ) [آل عمران: 102]. (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا) [النساء: 1]. (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدٗا (70) ‌يُصۡلِحۡ ‌لَكُمۡ أَعۡمَٰلَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].

أما بعد.

عباد الله: قيامة الإنسان سواء كانت الصغرى التي تنتهي بها حياته في هذه الدار، أم الكبرى التي يقوم فيها الناس لرب العالمين، من أعظم الأحداث التي تحدد مصيره في الدنيا والآخرة، فهي ذكرى يذكرها العبد بين حين وآخر ليزداد من التقوى ويستعد لهذا اليوم العظيم، حين يقف بين يدي الله عز وجل، فما هو موقفك يا عبد الله من قيامتك الصغرى؟

عندما يأتي الموت للإنسان، معلناً انتهاء أجله وعمله ومهلته في هذه الحياة وانتقاله إلى دار أخرى تمهيداً للجزاء والحساب والعرض على رب الأرباب جل وعلا، يقول الله عن ذلك: (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِي * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ) (القيامة: 26-30). في هذا الموقف لا ينفع علاج الأطباء ولا الدواء، فيها يكون العبد في حالة استسلام تام لقيوم السماوات والأرض، حيث يقول الله تعالى: (فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ* فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) (الواقعة: 83-87).

في تلك اللحظة تنقطع الأماني وتتلاشى الآمال، وتبقى أمنية واحدة يلهج بها المحتضر بنداء خفي يسمعه قيوم السماوات والأرض، (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون:99-100]. وهو نداءٌ يأسف فيه على ما فاته، محاولًا الرجوع، وأنى له ذلك، فالأمر قد انتهى، وما تبقى إلا المصير إلى الله سبحانه، فتُقطع آماله في الحياة الدنيا، ويبدأ حساب الآخرة.

عباد الله: من خلال هذا النداء الخفي تأتي الملائكة إلى الكافر، وتنتزع روحه وهي تضربه على وجهه وعلى دبره. قال الله تعالى : (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [الأنفال:50-51]. أما المؤمن المصدق بموعود الله تعالى؛ فإنه يأتيه الأمن والسلام من الملائكة (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل:32].

وهنا يكون اليأس من الميت، وإذا ما أيس منه القوم قالوا: اتركوه، حركوه، وجهوه، مددوه، غمضوه، عجلوه للرحيل لا تحبسوه، ارفعوه، غسلوه كفنوه حنطوه، أخرجوه فوق أعواد المنايا شيعوه؛ فإذا صلوا عليه؛ قيل: هاتوه واقبروه، ودعوه فارقوه أسلموه خلفوه، وانثنوا عنه، وخلوه كأن لم يعرفوه.

وهناك في القبر ماذا بقي؟ بقيت تداعيات صيحته الأولى (رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ) [المؤمنون:99-100]. وتداعيات صيحته الثانية عند انطباق القبر عليه، وعندما يقرعه ملك أعمى أصم بيده مرزبة من حديد، يصعقه بها فيصيح صيحة تسمعها كل الخلائق إلا الإنس والجان؛ ولو سمع لصعق، تداعيات صيحته ترددها أرجاء السماوات والأرض.

عباد الله: هذا يوم تبلى فيه السرائر، فماذا عملنا لهذا اليوم ولتلك اللحظة؟ ماذا أعددنا لها؟ فالعمر يمضي والأجل يقترب.

تذكر يا ابن آدم أنك لا تزال في هدم عمرك منذ ولدتك أمك، إنما أنت أيام كلما ذهب يومك ذهب بعضك وأنت لا تعلم، وفجر كل يوم جديد ينادي: "أنا يوم جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنمني فإني إلى يوم القيامة لا أعود". قال صلى الله عليه وسلم «اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك» اغتنم قبل فوات الأوان.

اللهم إنا نسألك حسن الختام، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم لقائك، برحمتك يا أرحم الراحمين! أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح لهذه الأمة، وتركها على المحجة البيضاء.

أيها المسلمون: أما القيامة الكبرى فقد أخبرنا ربنا جل وعلا عنها، ووصف لنا أهوالها، ودعانا إلى تذكرها والاعتبار بها في مواضع كثيرة من القرآن فقال سبحانه: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ) [التكوير:1-14]. (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [القارعة:4-5]. (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج:2]. (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود:105]. (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين:6].
فيا له من يوم عظيم يشيب من هوله الولدان الصغار؟ ينادي ربنا جل وعلا يوم القيامة: أيها الملوك! أيها الأمراء والزعماء، أيها السلاطين والجبابرة : لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد! ثم يجيب نفسه سبحانه فيقول: لله الواحد القهار.

يقبض السبع السماوات بيمينه فيطويها، والأرض بيمينه فيطويها، ويقول: أين الجبارون؟ أين الملوك؟ أين المتكبرون؟ نداء مجلجل يوم القيامة في أرض المحشر. أين الناهبون للأموال الذابحون للشعوب؟ أين السجن والسجان؟ أين السوط والجلاد؟ أين الذين يذبحون اليتامى والأرامل والشباب؟ أين المرابون؟ في هذا اليوم يقال للمرابين: خذوا أسلحتكم! فيقولون: لماذا؟ فيقال لهم: لكي تحاربوا الله. أين الكاسيات العاريات المائلات المميلات؟ أين الغاويات الغانيات المغنيات؟ أين هم في هذا اليوم؟ أين الظالمون الذين يظلمون أزواجهم وأولادهم؟ أين القاطعون للأرحام؟ من هو الناجي في ذلك اليوم العصيب؟

ولئن نجوت فإنما هي رحمة الملك الرحيم وإن هلكت فبالجزا

يا ساكن الدنيا أمنت زوالها ولقد ترى الأيام دائرة الرحى

أين الألى شادوا الحصون وجندوا فيها الجنود تعززاً أين الألى

أين الألى وذوو المواكب والكتائب والنجائب والمراتب والمناصب في العلى

أفناهم ملك الملوك فأصبحوا ما منهم أحد يُحس ولا يُرى

عباد الله: هذا المصير وهذا المآل حقيقة لا خيال، جد لا هزل، لا ينفع فيه الندم والعتاب، إنما هي الحسنات والسيئات، فتوبةً قبل الممات، وندمًا على ما فات، واستعدادًا ليوم المعاد، قبل أن يأتي ذلك اليوم، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

اللهم ثبتنا يوم الفتنة، وأطعمنا يوم الجوع، واسقنا يوم الظمأ، واسترنا يوم العورة، وأمنا يوم الفزع، وصبرنا يوم الجزع. اللهم هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

خطب الجمعة

ومضى شهر رمضان

الخطبة الأولى الحمد لله، حمداً كثيراً، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك القدوس السلام، ونشهد أن نبينا...المزيد