الخطبة الأولى
الحمد لله الذي قضى وقدّر، ورفع ووضع، وأعطى ومنع، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي قال: (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أما بعد:
أيها المسلمون: إن الدنيا دار امتحان وابتلاء، وليست دار قرار وجزاء، هذه حقيقة أقرّها القرآن الكريم ليزيل اللبس عن قلوبنا؛ فنحن لم نُخلق لنسير في طريق مفروش بالورود بلا عقبات، بل خُلقنا في كبد ومشقة، قال الله تعالى في كتابه العزيز: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة: 155-156].
والابتلاء ليس شرًا محضًا، بل هو عملية تمحيص وتطهير، وهو المعيار الذي يُميز صدق الإيمان من ادعائه؛ فالله عز وجل يبتلي العباد ليُظهر حقيقة ما في صدورهم، هل سيتعلقون بالخالق أم بالمخلوق؟ هل سيتذمرون أم سيصبرون ويرضون؟ والابتلاء هو المحك الحقيقي لصدق إيمان العبد، يقول الحق سبحانه وتعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 2-3].
إن هذه الآية تنفي وهم العافية المطلقة عن المؤمنين، وتؤكد أن الإيمان لا يستوي إلا على أرض الاختبار والتحدي، وكلما ازداد الإيمان اشتد البلاء؛ ليرتفع العبد درجات لا يبلغها بصالح عمله وحده.
عباد الله: لا بد أن نقف اليوم وقفة تأمّل صادقة مع هذه الحقيقةٍ التي لا مفرَّ منها في حياتنا، وهي: الابتلاء؛ فكم من قلبٍ مُثقلٍ بالهمّ اليوم؟ وكم من جسدٍ أضناه المرض؟ وكم من عينٍ ذرفت دمعًا على فَقْدِ حبيبٍ أو خسارة مال؟
لعل البعض يظن أن السعادة في غياب المشكلات والمنغصات، التي لا تخلو الحياة منها، ولكن الحقيقة أيها الكرام، أن السعادة تكمن في كيفية تعاملنا مع مع هذه المنغصات، فالله سبحانه وتعالى لم يخلقنا ليتركنا سُدى، بل جعل الدنيا دار امتحان وابتلاء. ومن رحمة الله بنا أنه لم يجعل في البلاء عنتاً دائمًا، بل جعله فرصة للارتقاء.
فلنتعلم اليوم كيف نخرج من محنة البلاء إلى منحة الصبر واليقين، وكيف يكون الإنسان في بلائه أقرب الناس إلى رحمة الله وعطاياه.
عباد الله: ليست المصائب علامة على غضب الله بالضرورة، بل قد تكون دليلاً على حب الله واصطفائه للعبد؛ وانظروا إلى الأنبياء وهم أصفياء الخلق، كانوا أشد الناس بلاءً، سئل صلى الله عليه وسلم: أي الناس أشد بلاء؟ قال: (الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد صلابة، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، ولا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض ما له خطيئة) رواه الدارمي.
بل إن الابتلاء قد يكون كرامة، ويعظم به الجزاء، ويثقل به ميزان العبد، ويرفع درجته يوم القيامة، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة) رواه الترمذي، وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط) رواه الترمذي.
فالابتلاء كفارة للذنوب والخطايا: كل وخزة شوكة، أو همّ يمر بالمؤمن يمحو الله به من خطاياه. عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما يصيب المسلم، من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه) رواه البخاري. وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة، في جسده، وفي ماله، وفي ولده، حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة) رواه أحمد.
معاشر المسلمين: الابتلاء له فوائد متعددة :
فمنها رفع الدرجات: هناك درجات عالية في الجنة لا يصل إليها العبد إلا بالصبر على ما يكره، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة، فما يبلغها بعمل فما يزال الله يبتليه بما يكره، حتى يبلغه إياها) رواه أبو يعلى.
ومنها: أنه يُجبر القلوب القاسية على اللجوء والإقبال إلى الله والتضرع إليه، فتتحول المصيبة إلى منقَذ ومستراح.
ومنها: التذكير بالهدف الأسمى؛ فيُذكّرنا البلاء بأن هذه الدنيا فانية، وأن الآخرة هي دار البقاء والجزاء، فيهون على أنفسنا ما فاتنا منها.
ومنها: التذكير بنعمة العافية؛ فمن خلال الابتلاء يتذكر الإنسان نِعَم الله عليه في غيرها من جوانب حياته، ويدرك قيمة العافية التي كان يتقلب فيها.
ومنها: الوصول إلى أعلى المراتب والدرجات التي قد لا يبلغها الإنسان بعمله .
أيها المسلمون: الابتلاء سُنّةٌ إلهيةٌ وقدرٌ محتومٌ على جميع البشر، لا ينجو منه أحد، مؤمنًا كان أو كافرًا، صحيحًا كان أو مريضًا، فالله عز وجل خلق الإنسان في كبد ومشقة، كما قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد: 4].
لكن المؤمن الحق يقابل الابتلاء بأربع مقامات عظيمة:
الأول: الصبر الجميل دون تذمر أو شكوى: وهو حبس النفس عن الجزع، واللسان عن الشكوى والاعتراض على القضاء، والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب، قال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10].
والثاني: الرضا بالقضاء: وهو أن تستقبل البلاء بقلب مطمئن مستسلم لتدبير الله وحكمته، ومؤمن بأن كل ما يأتي من الله خير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ) متفق عليه. وعن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له) رواه مسلم.
والثالث: الشكر على كل حال: فالمؤمن يشكر الله حتى في وقت البلاء؛ لأنه يرى أن المصيبة لم تكن أعظم مما هي عليه، ويحمده على التوفيق للصبر، ويحمده إذ لم تكن في دينه، قال شريح القاضي: "إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها لأربع: أحمده إذ لم تكن أعظم مما هي، وأحمده إذ رزقني الصبر عليها، وأحمده إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو فيه من الثواب، وأحمده إذ لم يجعلها في ديني".
والرابع: الاسترجاع والدعاء: أن تُردد قوله تعالى: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ»، كما حثنا الله على ذلك بقوله: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة: 156]، ففي الاسترجاع اعتراف بالعبودية وأن الأمر كله بيد الله، ثم يأتي الدعاء الذي يُنير طريق المبتلى.
أيها المبتلى، لا تَشْكُ بثَّك وحزنك إلا إلى الله وحده، ففي الشكوى إليه راحة وسلوان، وتذكر قول يعقوب عليه السلام: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) [يوسف: 86]. واعلم أن الفرج قريب، فما نزل بلاء إلا ومعه اللطف، وما ضاقت إلا لتُفرج.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله أوصيكم بتقوى الله في السر والعلن، فهي حبل النجاة من المحن والفتن، وخير زاد ليوم العرض العظيم.
أما بعد:
أيها المسلمون: إن نِعَمَ الله علينا لا تُعد ولا تحصى، ومهما عظم الابتلاء الذي نمر به، فإن ما عندنا من النعم؛ كنعمة الإسلام، والعافية في السمع والبصر، والأمن في الأوطان، لهو أكبر وأعظم. فإذا ضاقت بك الأحوال يومًا، فثِق بالواحد الأحد، واعلم أن بعد العسر يُسرًا، وأن مع الضيق فرجًا.
فيا أهل البلاء أبشروا، فإنه إذا رأى أهل العافية يوم القيامة ما يُعطيه الله لأهل البلاء من الثواب تمنوا لو كانوا قُطِّعت أجسادهم بالمقاريض.
معاشر المؤمنين: علينا أن نتأمل في قصص الأنبياء والصالحين لنقتبس منها نور اليقين؛ انظروا إلى أيوب عليه السلام، الذي ابتُلي في ماله وولده وجسده، فلم يزده ذلك إلا إنابةً وتسليمًا، فكان جزاؤه: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [ص: 44].
وتذكروا يوسف عليه السلام، الذي مر بسلسلة من البلاء بدأت بالبئر وانتهت بالسجن، لكن يقينه بالله لم يتزعزع حتى جعله الله عزيز مصر.
هذا هو اليقين: أن تثق بوعد الله بالفرج مهما اشتد الكرب؛ فإن من قواعد الإيمان العظمى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) [الشرح: 5-6] فـ "مع" تفيد الملازمة والمصاحبة، أي أن اليُسر ملازم للعسر لا يسبقه أو يتأخر عنه، لكن قد لا نراه نحن بأعيننا القاصرة.
وللمبتلى مفاتيح عملية تساعده على تجاوز المحنة بسلامة قلب وإيمان:
منها: حُسن الظن بالله: أن تُحسن الظن بأن الله يريد بك الخير، وأن هذا البلاء سيتحول إلى منحة.
ومنها: التفكر في النعم الباقية: أن تنظر إلى ما أبقى الله لك من نعم؛ كنعمة الدين، والعافية في الجوارح، والأهل، والأمن، وغيرها، وأن مصيبتك لم تكن في دينك.
ومنها: الدعاء بإلحاح: الدعاء هو سلاح المبتلى، ألجأ إلى الله بصدق، خاصة في أوقات السحر، وبين الأذان والإقامة.
ومنها: الاستغفار: فاستغفار العبد قد يكون سببًا في رفع البلاء، فالذنوب سبب رئيسي لنزول المصائب.
عباد الله: لا تجعلوا للشيطان سبيلاً لزرع اليأس في قلوبكم، اصمدوا وتوكلوا، وستجدون الله عند حُسن ظنكم به.
هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه، بقول ربنا سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
المقالات

