الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الإمام الشافعي.. شمس الدنيا وعافية البدن

الإمام الشافعي.. شمس الدنيا وعافية البدن

الإمام الشافعي.. شمس الدنيا وعافية البدن

إمام العباقرة ، وعبقري الأئمة ، له في العلم سبب ، وفي البيت نسب، وفي المروءة حسب.
سألت قريحته فتفجرت أنهار الحكمة من على لسانه، وساقت رياح التوفيق سحب علمه فسألت أدوية بقدرها . ذاكرته أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين .
الشافعي أخذ من الأثر روحه ، ومن الفقه خلاصته، ومن البيان ناصيتة ومن الشعر حلاوته ، ومن المجد ذروته .

قعّد للعلماء القواعد فغضب عليه أعداء الشريعة لأنهم رضوا بأن يكونوا مع القواعد ، فخَرَت به قريش ، وتبجحت به العراق ، وخرجت إليه مصر ، حاور محمد بن الحسن فقطع أزراره ، ورد على المريسي فأطفأ ناره ، وجاور أحمد فشكر جواره .
الشافعي لدنيا العلوم شمس ، ولأبدان الأخبار عافية ،ولليل المدلهم قمر، في الشرع شعرُه ، في الحق بذلُه ، للآخرة طلبُه ، لله سعيه ، لما خرج إلى البلاد لبست بغداد الحداد وأمست في سواد .

الألفاظ سكر ، والقصد نضيد ، حفر لحدًا للملاحدة ، وعزل في زنزانة الإحباط المبتدعة ، ورد الأباطيل في جوه أهل التعطيل ، إن سألنا عن أهل الكلام فالجريد والنعال . وأهل السنة : رواد الجنة . والفلاسفة : أهل سفه . ومالك : نجم الممالك . وأحمد بن حنبل : زرع سنبل.

أتاه المال ففر منه إلى العلم ، وأتته الدنيا فهرب إلى الآخرة تعلم الفراسة في اليمن ، فكشف أهل الزيغ والأفن، تدجج بالحجج فألحم الدجاجلة ، وصال بالأصول على أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم.
درس الطب فمرض جسمه ، و داوى الناس فزاد غُنمه .
المروءة عنده ولولا الشعر بالعلماء يزرى ، التواضع : أحب الصالحين ولست منهم .

ميزة الشافعي : التفرد ، ومنقبته التجرد ، تفرد في الفهم ، فعصر من زهر الذهن رحيقاً ، وتجرد للحق فنسج من بز الشريعة ثوباً سابغاً .
فاح طيب ذكره في الأنوف ، فيا فرحة من شم ، وهزم الباطل فكأنه شم عطر منشم، الشافعي شهاب ثاقب أُحرقت به شياطين الإنس ولهم عذاب واصب
يا ابن إدريس أيا الشهم الأجلّ *** أنت سيف الحق في العلياء سُلّ .
مسكين من جادل الشافعي وناظره ، مسكين من عارضه وكابره ، مسكين من عرفه وما ذاكره .
درس محمد بن إدريس علوم محمد صلى الله عليه وسلم فترك علماً لا يغسله الماء ولا تطفئه الريح ولا يلفه الظلام ، ولا ينسيه الدهر ، الرسوخ في يسر ، العمق في سهولة ، الأصالة في إشراق ، البراعة في نصوع .

أهل فارس يعرفونه ، وأهل الصين يذكرونه ، وأهل الأندلس يمدحونه ، وأهل الباطل يبغضونه .
إذا مرجت الآراء بزغ رأي الشافعي كالنجم الثاقب ، إن تكلم أسكت الخطباء ، وإن أنشد صمت الأدباء والبلغاء ، أحب الملة فأمهرها روحه ، وعشق العلم فأعطاه عمره ، وأخلص للرسالة ففاضت لها نفسه، فهو عاشق المُثُل ، سامي المقاصد ، رجل المروءات ، ناشر السنة بين أهلها ، وناصرها على أعدائها ، وحافظها لمحبيها ، وشارحها لناقليها .
وإن تفق الأنام وأنت منهم *** فإن المسك بعض دم الغزال
ورث أنوار الرسالة ، فألف للأمة الرسالة ، مات أبوه فكفلته الأم ، فقدم للناس كتاب الأم ، إذا نطق الشافعي فكأن السيل أقبل ، والفجر بزغ والنور سطع ، صحة مخارج ، حلاوة لفظ ، قوة حجة ، براعة دليل ، سلامة إنشاء ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) [الجمعة :4]
في الفقه إمام، في النقل حجة ، في النسك علَم ، في اللغة أستاذ في الذكاء آية .
سرت به أمة من غزة فسبحان الذي أسرى ، وعاش في مكة لينفع أم القرى .

الشافعي لم يستند إلى النسب ولو أنه مُطلّبيّ ، ولم يتكل على الجاه فهو أبيّ ، ولكن أخذ بأسباب الخلود ، وهجر أسباب الفناء ، فأمات في حياته النفس الأمارة ، وأحيا بوفاته النفس المطمئنة ، فنوديت ( ارجعي إلى ربك راضية مرضية) [الفجر :27].
إذا كانت الحياة بالبساط والسياط والسلطة والسطوة فأين أصحابها بعد موتهم ( هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً ) [ مريم :98].

عند الشافعي : اتباع الأثر عبادة ، الوقوف مع النقل عقل ، توقير الصحبة عقيدة ، رد الشُبَه جهاد، تعليم الناس ربانية ، ترك المعاصي هجرة ، أهل الحديث رؤوس ، المبتدعة سفلة ، علم الكلام غي، المنصب ذُل ، الدنيا دنيئة .

بدا إلى البادية فهذّ شعر هذيل ، كان رأسا وسواه ذيل ، احتسى علم مالك ، ومص فهم أبي حنيفة ، وجمع بين النثر والشعر ، والرواية والدراية والعقل والنقل .
الشافعي عروبة حجازية ، وفصاحة عراقية ، ورقة مصرية ، أعجب ما فيه روح التجديد في المذهب القديم ، وقدم التأصيل في مذهبه الجديد ، سخر الشعر للشريعة ، والنحو للوحي ، والرأي للرواية ، التعليل للتأويل ، حملته الهمة فأضناه الطلب ، وخلع الدنيا فليس تاج القبول، خاف الدنيا والدنايا ، وجانب الشيطان والشر والشهوة والشبهة .

إن خطب أطنب وأطرب، وأتى بكل أطيب .. وإن أفتى شفى وكفى وأوفى .
فلج خصوم الإسلام ، ونكس رايات الأقزام وأبقى ذكره للأيام، دمغ الضلال ، واكتسح الجهال، ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) [إبراهيم :46].
انكسر به ظهر الجبرية ، وثلم به قدر القدرية ، وأخرجت حججه شبه الخوارج ، واهتز في يده سنان السنة.
فرضي الله عن تلك الأرواح ، وجمعنا بهم مع أهل العلم والصلاح ، وصلى
ــــــــــــــــــ
الشيخ:عائض بن عبد الله القرني

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة