الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ولا تكونوا أول كافر به

ولا تكونوا أول كافر به

ولا تكونوا أول كافر به

في سياق تذكير القرآن بني إسرائيل بفضل الله وما أسبغه عليهم من نِعَم ظاهرة وباطنة، والذي بدأ الخطاب بقول الله تعالى: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين} (البقرة:40) إلى أن قال: {وأمنوا بما أنزلت مصدقًا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به} (البقرة:41) نتوقف مع هذه الآية الأخيرة، لنستشف ما تحمله من دلالات ومعان:

الخطاب في الآية كما هو ظاهر لليهود من أهل الكتاب، وقوله تعالى: {بما أنزلت} المقصود بالمنَـزَّل هنا القرآن الكريم، أي: آمنوا بما جاء في القرآن من الأحكام والمبشرِّات بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وظهور الإسلام على غيره من الأديان، كما جاء ذلك في كتبكم التوراة والإنجيل.

وقوله تعالى: {ولا تكونوا أول كافر به} عطف على قوله سبحانه: {وآمنوا بما أنزلت} وهو ارتقاء في الدعوة، واستجلاب للقلوب. وجاء الضمير في قوله تعالى: {ولا تكونوا} بصيغة الجمع، بينما جاء قوله: {كافر} بصيغة الإفراد، وحقه أن يكون جمعًا، ليناسب الضمير قبله؛ قالوا: إنما جاء به مفردًا، ولم يقل: ( كافرين ) حتى يطابق ما قبله؛ لأنه وصف لموصوف محذوف مفرد اللفظ، متعدد المعنى، تقديره: فريق، وعلى هذا فالمعنى: ولا تكونوا أول فريق يكفر بالقرآن وما جاء به.

ثم إنه سبحانه قال: {أول كافر به} مع أنه قد سبقهم إلى الكفر به كفار قريش؛ ووجَّه المفسرون ذلك بأن المراد: أول كافر به من أهل الكتاب، لأنهم العارفون بما يجب للأنبياء، وما يلزم من التصديق بما جاؤوا به؛ وعلى هذا فالضمير في قوله: {بـه} عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أي: لا تكونوا أول كافر بهذا النبي صلى الله عليه وسلم، مع كونكم قد وجدتموه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل، مبشَّرًا به في الكتب المنـزلة عليكم.

على أنه يمكن إرجاع الضمير أيضًا إلى القرآن، وعليه يكون المعنى: لا تكونوا أول كافر بالقرآن، ومعلوم أن مما جاء في القرآن، إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدق رسالته؛ واختار ابن جرير الطبري أن الضمير في قوله: {بـه} عائد على القرآن، الذي تقدم ذكره في قوله: {بما أنزلت} وكلا القولين صحيح، لأنهما متلازمان؛ إذ الإيمان بالقرآن يستلزم الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، والإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، يستلزم الإيمان بالقرآن.

يرشد لهذا المعنى قول الحسن والسدي والربيع بن أنس: من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر بالقرآن.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ولا تكونوا أول كافر به، وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم.

على أن التقيد في الآية بـ {أول} لا مفهوم له؛ إذ ليس المقصود من الآية النهي عن الكفر أولاً فحسب، بل المقصود النهي عن ذلك دائمًا وعلى كل حال، وخُصَّ الأول بالذكر لأن التقدم والسبق إليه أغلظ وأشنع، فكان الأول والأخر في الحكم سواء؛ فقوله جلَّ ثناؤه: {أول كافر به} يعني أول من كفر به من بني إسرائيل، لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بشر كثير، لم يؤمنوا بما جاء القرآن به.

وفي تقرير هذا المعنى يقول أبو العالية: ولا تكونوا أول من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، يعني من جنسكم أهل الكتاب، بعد سماعكم بمبعثه.

إذا عُلِمَ هذا، نقول: إن قوله تعالى: {ولا تكونوا أول كافر به} يحتمل وجوهًا من المعاني، إليك بيانها:

الأول: أن النهي عن الكفر بالقرآن وما جاء به، هو تأكيد لطلب الإيمان به؛ إذ الإيمان والكفر نقيضان لا يجتمعان، إذا انتفى أحدهما ثبت الآخر، فكان النهي عن أن يكونوا أول الكافرين، يستلزم أن يكونوا أول المؤمنين، وعلى هذا فالمقصود من النهي توبيخهم على تأخرهم في اتباع دعوة الإسلام.

الثاني: أن يكون المقصود التعريض بالمشركين، وبيان أنهم أشد كفرًا من اليهود، والمعنى على هذا: لا تكونوا أيها اليهود أشد كفرًا من المشركين الذين كانوا سابقين في الكفر بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .

الثالث: أن يكون المراد من {أول} المبادرة والمسارعة إلى الإيمان، كقوله تعالى: {فأنا أول العابدين} (الزخرف: 81) أي: أول المسارعين والمبادرين للالتزام بشرع الله، ونبذ ما سواه من الشرائع البشرية والوضعية.

الرابع: أن يكون {أول} كناية عن القدوة في الأمر، والمعنى عليه: لا تكونوا كافرين بهذا القرآن، فتكونوا قدوة لمن جاء بعدكم، وبئس القدوة تلك.

وكما ترى، فإن الآية تحتمل هذه المعاني كلها ولا تأباها؛ على أن الآية وإن كانت خطابًا لليهود في عهد الرسالة، بيد أنها تفيد خطاب الناس كافة، زمانًا ومكانًا؛ إذ هي دعوة للناس أجمعين للإيمان بهذا الدين، والتزام أحكامه أمرًا ونهيًا، وترك ما سواه من الأديان السماوية المنسوخة والمحرفة، ونبذ الشرائع الوضعية التي استحدثها الناس، فضلوا بها وأضلوا عن سواء السبيل. والله يرشدني وإياك إلى صواب القول، وحُسْن القصد.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة