الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هوامش على تاريخ الحجاج!! ( 1 )

هوامش على تاريخ الحجاج!! ( 1 )

هناك شخصيات تكون على موعد مع القدر، تهيئها الأقدار لأداء أعمالٍ حاسمة وللقيام بجهود خارقة، تترك أثرًا يملأ سمع الدنيا إلى الأبد، ومن هؤلاء الحجاج بن يوسف الثقفي رحمه الله، ومثل هؤلاء دائمًا يختلف الناس في تقييمهم، وقد اختلف الناس في الحجاج اختلافًا عظيمًا، فأعداؤه - وهم كُثر - قالوا فيه كل مَنْقصة، ووصموه بكل عيب، وبالغ من بالغ، حتى اخترعوا غرائب وعجائب - تصل إلى حد الخرافة - في نشأته ومولده.
ولا شك أنه كان بالحجاج قسوة وبطش، يجعله ذلك يميل إلى توقيع أقصى العقوبة وأبلغها، ولا يميل قيد شعرة إلى اللين.
هذا القدر من أخبار الحجاج متفقٌ عليه بين كل من تكلَّم عنه من مادحٍ وقادحٍ.
ولكن هناك عدة أمور أدت إلى هذه الصورة المستبشعة عن الحجاج، وهي:
1- المبالغة : وذلك أمرٌ فطريٌ، فما عُرف أحد بصفة، واشتهر بها حتى رويت عنه حكايات تبالغ في هذه الصفة، حتى تخرج بها عن حدِّ المعقول، ولا يكون ذلك فيمن عرف بصفة مذمومة فقط، بل من عُرف بصفة ممدوحة أيضًا، فمن عرف بصفة الكرم أو الشجاعة أو التقوى والصلاح، ونحوه، تجد في تاريخه حكايات وأخبارًا من المبالغات تصل إلى حدِّ اختراع وقائع لا يقبلها عقل عاقل.
2- إن هذه المبالغات تكون أكثر شيوعًا وذيوعًا من الحقائق، وذلك أيضًا أمرٌ فطري، فالناس مولعون برواية العجائب والغرائب، نبه إلى ذلك ابن خلدون، وحذّر منه، نص على ذلك في مقدمته؛ وذلك لأن رواية الأحداث والوقائع المعقولة والممكنة لا يهزَّ السامع، ولا يلفت الناس إلى من يحكي، فاحتاج الإخباريون إلى المبالغة، قصدًا للإثارة وجلبًا للسامعين.
3- وما عُرف به الحجاج واستقر عنه من القسوة والبطش، والبعد عن اللين، جعل لهذه الحكايات قبولاً "فالشيء من معدنه لا يُستغرب". ولذلك راجت هذه المبالغات حتى عند علماء كرام، وأئمة عظام، من شأنهم أن ينقدوا الأخبار، وينظروا في سندها ومتنها.
4- ساعد أيضًا على قبول هذه الأخبار ما هو مركوز في طبع البشر من الكراهية والبغض للقسوة والبطش، فلم يلتفتوا لنقد هذه الأخبار، بل قبلوها على علاَّتها؛ حيث تُشبع عاطفتهم وترضي مشاعرهم تجاه الحجاج .
5- كثرة أعداء الحجاج: فما من أحدٍ - فيما أعتقد - حارب كل الطوائف والفرق مثلما فعل الحجاج. لقد حارب الحجاج - من أجل وحدة الأمة - كل الأطياف السياسية (بلغة العصر): حارب الحجاج الخوارج، وحارب السبئيين، وحارب الباطنية، وحارب الزبيريين، وحارب الطامحين الذين رأوْا الفتن تنشب هنا وهناك؛ فسوّلت لهم أنفسهم أن يتطاولوا للخلافة، ولو أدى ذلك إلى تمزيق الأمة، إلى دويلات ماداموا ينالون حكم جزءٍ منها.
6- من أجل هذه العداوة الشاملة للحجاج جاءت الأخبار والمبالغات، بل والافتراءات ضده من كل الإخباريين، فلا تجد إخباريًّا أو مؤرخًا إلا وله ثأر عند الحجاج.
7- وظل هذا الطوفان من أخبار الحجاج يزداد، ويربو حتى حجب كل فضائل الحجاج ومآثره، سواء فضائله الشخصية أو أعماله ومآثره في غير مجال الحرب، وعن هذا وجدنا إمامًا جليلاً مثل الإمام الذهبي يقول في ترجمته: "وله حسناتٌ ولكنها مغمورة في بحر ذنوبه".
ولكن مع كل هذا يبقى عِلم أسلافنا الأولين أفضل وأقوم، فهو بين أيدينا بسنده، نعرف رواته، ونعرف الذين دوّنوه، فنستطيع - بشيء من الجهد - أن نصل - إلى حد كبير - إلى التمييز بين الصحيح والسقيم من الروايات، ونتحفظ على أهواء المؤرخين وانحيازهم.
ولكن الذي لا علاج له، أن يصل قلم أديب من أبناء عصرنا إلى أن يفسِّر أعمال الحجاج وقسوته مع ابن الزبير بأنه كان يسعى لمجد نفسه، وليرفع خسيسة أصله، ولينجو من وضاعته؛ حتى يصير جديرًا بإمارة من إمارات الدولة.
يفسِّر عمل الحجاج بهذا التفسير، فيتدسس إلى نفسه، ويصل إلى طويّته، ويدخل إلى قلبه، ويكشف نيته، ويصوّره بهذا السوء، ويعرضه على عامة الناس مجسَّدًا في شخص ممثل قدير، يؤكد هذه المعاني بملامح وجهه، وحركات يديه، ونظرات عينيه؛ فيرى الناس خبث الحجاج مجسدًا مشهودًا ناطقًا، لا يعنيه في سبيل الحصول على إمارة العراق أن يقتل ابن الزبير ومن معه، وأن يرمي البيت الحرام بالمنجنيق!!
ومتى يحدث هذا؟ في فجر الإسلام!! في خير القرون، في عصر الصحابة والتابعين.
إذا كنا قد فعلنا بأنفسنا هذا مبكرًا، فلا حرج على (بوش) أن يفعله الآن ومن أجل إمارة العراق أيضًا.. يا لَلْمفارقة!!
التاريخ يقول غير هذا.. للحديث صلة.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة