الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الحركة في قاموس الدعاة

الحركة في قاموس الدعاة

الحركة في قاموس الدعاة الحركة كما يقولون ولود، والسكون عقيم، والحركة في قاموس الدعاة هي الحياة، والسكون هو الموت، والحركة هي الحد الفاصل بين عهد الرخاوة، وبين عهد حمل الأمانة بعزم وحزم ووفاء.
وبالحركة انتشر المسلمون الأوائل مثل شعاع الشمس في أقطار الأرض، يفتحون البلاد، وقلوب العباد، ويدعون إلى التوحيد، ويحطمون الطواغيت، ويقودون الناس إلى الجنة. وبالحركة صاروا في ظلمات الحياة سراجًا وهَّاجًا، فإذا الباطل رماد بعد التهاب، وخمود بعد حركة.
والماء إذا سكن فسد ، والأسد إذا توقفت عن الصيد ماتت جوعا، والسهم لا يصيب إلا إذا أطلق من كنانته وقوسه كما قال الإمام الشافعي رحمه الله:
@إِني رأيتُ وقوف المـــــاء يفســده.. ... ..إن ساح طاب، وإن لم يجر لم يطب
والأُسْدُ لولا فراق الأرض ما افترست.. ... ..والسهم لولا فراق القوس لم يصب
والشمس لو وقفت في الفلك دائمة.. ... ..لملَّها الناس من عجم ومن عربِ@@

فعلى الداعية أن يتحرك، ويحرك الآخرين، مبتدئًا بعشيرته الأقربين:
@كُنْ مشعلاً في جُنْح ليلٍ حالكٍ.. ... ..يهدي الأنَامَ إلى الهدى ويُبيِّنُ
وانشط لدينك لا تكنْ متكاسلاً.. ... واعمل على تحريك ما هو ساكنُ
وابدأ بأهــلك إنْ دعَــوَتَ فإنهم.. ... ..أولى الـورى بالنصح منك وأَقْمَنُ
واللــه يأمــر بالعشـــــيرة أوَّلا.. ... ..والأمــر من بعد العشــيرة هَيِّنُ@@

**الحركة قيامة وبعثُ للرُّوح:***
"لا يكون المؤمن العامر القلب إلاَّ متحركًا محركًا، أما المتباطئ الذي يعد بالالتحاق بعد ما تظهر بوادر النجاح، فإنما يعد وعد الضعاف. فلا تؤجل الانضواء تحت لواء الحق، وإلاَّ عضضت أسنة الندم.
دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا الجوشن الضبابي إلى الإسلام بعد بدر؛ فقال له: "هل لك إلى أن تكون من أوائل هذا الأمر؟ قال: لا. قال: فما يمنعك منه؟ قال: رأيت قومك كذبوك، وأخرجوك، وقاتلوك، فانظر: فإن ظهرت عليهم آمنت بك واتبعتك، وإن ظهروا عليك لم أتبعك". فكان ذو الجوشن يتوجع على تركه الإسلام حين دعاه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم".

فكن رائدًا، وأجب داعي الله، بلا تلكؤ ولا تلعثم، ولا تردد، فهذا هو شأن المؤمنين.
قال إبراهيم عليه السلام: "يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر". قال: "فاصنع ما أمرك ربك". قال: "وتعينني؟". قال: وأعينك".

وقد كان الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ينادي في موسم الحج: "من يحملني حتى أبلغ رسالة ربي؟". وهاهو صلى الله عليه وسلم يناشدك: "بلِّغوا عني ولو آية". ويدعو لمن يبلغ عنه: "نضَّر الله امرءًا سمع منَّا شيئًا، فبلَّغه كما سمعه، فرُبَّ مُبلِّغٍ أوعى من سامعٍ". ورُوي أنه كان يقول صلى الله عليه وسلم في دعائه: "اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين".

واسمع إلى الغزالي رحمه الله وهو يقول:
"اعلم أن كل قاعدٍ في بيته أينما كان فليس خاليًا في هذا الزمان عن منكر، من حيث التقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم وحملهم على المعروف، فأكثر الناس جاهلون بالشرع في شروط الصلاة في البلاد، فكيف في القرى والبوادي ومنهم الأعراب والأكراد والتركمانية، وسائر أصناف الخلق. وواجب أن يكون في كل مسجد ومحلة من البلد فقيه يعلم الناس دينهم، وكذا في كل قرية، وواجب على كل فقيه - فرغ من فرض عينه وتفرغ لفرض الكفاية - أن يخرج إلى ما يجاور بلده من أهل السواد ومن العرب والأكراد وغيرهم، ويعلمهم دينهم وفرائض شراعهم"اهـ.

وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يفسر قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ)[المدثر:1،2] فيقول:
"فواجب على الأمة أن يُبَلِّغوا ما أُنزل إليه، وينذروا كما أنذر، قال الله تعالى: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)[التوبة:122].. والجن لما سمعوا القرآن: (وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ)[الأحقاف:29]"اهـ.

وهذا تلميذه الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله يقول: "وتبليغ سنته صلى الله عليه وسلم إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو، لأن تبليغ السهام يفعله كثير من الناس، وأما تبليغ السنن فلا يقوم به إلاَّ ورثة الأنبياء، وخلفاؤهم في أممهم، جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه"اهـ.

إن سناء الهمة في نشدان الكمال الممكن، ومن أراد المنزلة العليا القصوى من الجنة، فعليه أن يكون في المنزلة القصوى في هذه الحياة الدنيا، واحدة بواحدة، ولكل سلعة ثمن.
@إذا ما علا المرء رام العلا.. ... ..ويقنع بالدون من كان دونا@@
وليست هذه المنزلة العليا في الدنيا إلاَّ منزلة الدعوة إلى الله، ووراثة وظائف النبوة، التي ليس أشرف منها إلاَّ منزلة النبوة نفسها، وهذا الإمام أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله تعالى يناديك:
"ألست تبغي القرب منه؟ فاشتغل بدلالة عباده عليه، فهي حالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أما علمت أنهم آثروا تعليم الخلق على خلوات التعبد، لعلمهم أن ذلك آثر عند حبيبهم". و"هل كان شغل الأنبياء إلاَّ معاناة الخلق، وحثهم على الخير، ونهيهم عن الشر"اهـ.

وهاهو رحمه الله يقارن بين الشجعان الذين يخالطون الناس لدعوتهم، ويصبرون على أذيتهم، وبين المتخاذلين المعتزلين القاعدين عن الدعوة إلى الله تعالى، فيقول:
"الزهاد في مقام الخفافيش، قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن نفع الناس، وهي حالة حسنة إذا لم تمنع من خير، ومن جماعة واتباع جنازة وعيادة مريض. إلاَّ أنها حالة الجبناء. فأما الشجعان فهم يتعلمون ويعلمون. وهذه مقامات الأنبياء عليهم السلام".

ويقول الشيخ عبد القادر الجيلاني وهو في شيخوخته: من كملت معرفته لله عز وجل صار دالاًّ عليه، يصير شبكة يصطاد بها الخلق من بحر الدنيا، يعطي القوة حتى يهزم إبليس وجنده، يأخذ الخلق من أيديهم. يا من اعتزل بزهده مع جهله؛ تقدم واسمع ما أقول، يا زهاد الأرض تقدموا. خربوا صوامعكم، قد قعدتم في خلواتكم من غير أصل، ما وقعتم بشيء، تقدموا".

وكذلك فهم العالِم العامل، وإن كلماته ليهتز لها القلب اهتزازًا. هكذا كان شأن الدعاة دومًا، وعلى داعية اليوم أن يكون رحالة سائحًا في محلات مدينته، ومدن قطره، يبلغ دعوة الإسلام.
انظر مثلاً كيف كانت رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم تسيح في البوادي تبلغ الأعراب كلمة الإسلام، وتبشر به، ولم يكن ثمة انتظار ورودهم إلى المدينة، ألاَّ ترى أن الأعرابي الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أركان الإسلام، فلما أخبره بها وقال: "لا أزيد عليهن ولا أنقص" كيف كان قد بدأ سؤاله بأن قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا محمد! أتانا رسولك، فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك؟".
أتاهم رسوله داعيًا، وكذلك الناس تُؤتى، ومن انتظر أن يأتيه الناس فليس بداعية، ولو فصَلت كلمة هذا الأعرابي، لتبين لك كيف فارق هذا الصحابي الداعية المدينة لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم لقوم هذا، وكيف فارق أهله وبيته وأولاده، وكيف اجتاز المفاوز وصحراء من بعد صحراء، وكيف تعرض للمخاطر والحر أو البرد، ليبلغ دعوة الإسلام.
وهذا شأن الدعوة التي تريد أن تصل إلى أهدافها، لا بد من تحرك ومبادأة وغدو ورواح وتكلم، ليس القعود والتمني من الطرق الموصلة، فافقه سيرة سلفك وقلدهم، تصل، وإلاَّ فراوح في مكانك، فإنك لن تبرحه..".

ويروي لنا التابعي الكروفي، الفقيه النبيل، عامر الشعبي، أن رجالاً "خرجوا من الكوفة، ونزلوا قريبًا يتعبدون، فبلغ ذلك عبد الله بن مسعود، فأتاهم، ففرحوا بمجيئه إليهم، فقال لهم: ما حملكم على ما صنعتم؟. قالوا: أحببنا أن نخرج من غمار الناس نتعبد. فقال عبد الله: لو أن الناس فعلوا مثل ما فعلتم؛ فمن كان يقاتل العدو؟ وما أنا ببارح حتى ترجعوا.

كان الإمام أحمد إذا بلغه عن شخص صلاح أو زهد، أو قيام بحق، أو اتباع للأمر: سأل عنه، وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة، وأحب أن يعرف أحواله.
لم يكن بالمنعزل المتواري الهارب من الناس، فالداعية يفتش عن الناس، ويبحث عنهم، ويسأل عن أخبارهم، ويرحل للقائهم، ويزورهم في مجالسهم ومنتدياتهم، ومن انتظر مجيء الناس إليه في مسجده أو بيته، فإن الأيام تبقيه وحيدًا، ويتعلم فن التثاؤب.

**نماذج من حركة السلف***
عن جعفر بن سليمان قال: "سمعت مالك بن دينار يقول: لو استطعت أن لا أنام؛ لم أنم مخافة أن ينزل العذاب وأنا نائم، ولو وجدت أعوانًا، لفرَّقتهم ينادون في سائر الدنيا كلها: يا أيها الناس! النارَ النارَ".

وعن إبراهيم بن الأشعث قال: "كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة لا يزال يعظ، ويذكر ويبكي، حتى لكأنه يودِّعُ أصحابه ذاهبا إلى الآخرة، حتى يبلغ المقابر، فيجلس فكأنه بين الموتى حتى يقوم، ولكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها".

وعن شجاع بن الوليد قال: "كنت أخرج مع سفيان الثوري، فما يكاد لسانه يفتر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهبًا وراجعًا".
والإمام الزهري: "لم يكتف بتربية أجيال وتخريج أئمة في الحديث، بل كان ينزل إلى الأعراب، يعلمهم".
أما الشيخ أبو إسحاق الفزاري رحمه الله: فقد "كان رجل عامة، وهو الذي أدَّب أهل الثغور الإسلامية التي في أعالي بلاد الشام والجزيرة تجاه الروم، وعلَّمهم سنن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يأمر وينهى، وإذا دخل الثغر رجل مبتدع أخرجه".

وأما الإمام الجليل الخِرقي صاحب "المختصر" فقد قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: "وسمعت من يذكر أن سبب موته، أنه أنكر منكرًا بدمشق، فضرب، فكان موته بذلك".

وقال جعفر بن برقان: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز، وقال في كتابه: "ومُرْ أهل الفقه من جندك، فلينشروا ما علمهم الله في مساجدهم ومجالسهم، والسلام".

وعن عثمان بن عطاء عن أبيه قال: "إن أوثق عملي في نفسي نشري العلم". وعطاء بن أبي رباح مفتي مكة هو القائل: "لأن أرى في بيتي شيطانًا؛ خير من أن أرى فيه وسادة، لأنها تدعو إلى النوم".

وما أجمل ما قال الشيخ القرضاوي وهو يجادل الخاملين، ويحاج الخامدين، ويوبخ الهامدين:
@قالوا: السعادة في السكون.. ... وفي الجمود وفي الخمود
في العيــــش بين الأهـــل .. ... ..لا عيش المهـــاجر والطريد
في المشي خلف الركب في .. ... دعـــة وفي خــطو وئـــيد
في أن تقــــول كمـا يقـــــال.. ... ..فـــلا اعـــــتراض ولا ردود
في أن تسير مع القطــــــيع.. ... .. وأن تقـــــاد ولا تقــــــود
في أن تصيــــــح لكـــل وال:.. ... .. عاش عهــــدكم المجيد
قلت: الحيـــاة هــي التحرك.. ... ..لا الســكون ولا الهـــمود
وهي الجهـــاد، وهــي يجـا.. ... ..هـــد من تعلق بالقــعود؟
وهي التلـــذذ بالمتــــــاعب.. ... ..لا التــــلذذ بالـــرقــــــود
هي أن تذود عن الحيــــاض.. ... ..وأي حــــــــر لا يــــذود؟
هي أن تحـــس بأن كــــأس.. ... ..الــذل مـــن مـــاء صديد
هي أن تعيــــش خلــيفة .. ... في الأرض شأنك أن تسود
وتقـــــول: لا، ونعم، إذا ما.. ... ..شـــئت في بصـــر حديد@@
ــــــــــــــــــــ
انظر "علو الهمة" للشيخ محمد إسماعيل

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة