الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

فإن خفتم ألا تعدلوا

فإن خفتم ألا تعدلوا

فإن خفتم ألا تعدلوا

في الآيات الأولى من سورة النساء، يُطالعنا -في تشريع النكاح والتعدد في الزوجات- قوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة} (النساء:3) وفي السورة نفسها في موضع آخر، نقرأ قوله سبحانه: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} (النساء:129) فالآية الأولى تدل على أن العدل بين الزوجات أمر ممكن ومستطاع، وأنه مقدور للمكلف إذا قصد إليه؛ بدليل الأمر بالنكاح، وإباحة الجمع بين الثنتين والثلاث والأربع؛ في حين أن الآية الثانية، تنفي إمكانية العدل بين النساء، وتقرر بنصها أن العدل بين الزوجات أمر خارج عن مقدور المكلفين !! فكيف السبيل للتوفيق والجمع بين الآيتين الكريمتين؟

وقبل الإجابة على هذا السؤال، لا بد من الإشارة إلى أن بعض من قلَّ زاده من العلم، يستند إلى الآية الثانية، ليقول: إن تعدد الزوجات في الإسلام أمر غير مشروع، محتجًا بأن العدل بين الزوجات أمر خارج عن طوق المكلف بنص الآية، وبالتالي فإنه إن فَعَلَ ذلك، فإن فِعْلَه يؤدي إلى الظلم، والظلم ممنوع في الشريعة ومدفوع، وهو ظلمات يوم القيامة.

ومما يؤسف له، أن هذا الفهم الخاطئ للآية الكريمة قد وقع فيه بعض أصحاب الأقلام المقروءة، والكلمات المسموعة، فراحوا لأجله يكتبون ويناقشون، وأصبحوا عنه ينافحون ويخاصمون. وتبعهم على ذلك رعاء الناس، ممن لا هم في العير ولا في النفير.

ولعلنا فيما يلي من سطور، نحاول إيضاحَ الحق في هذه المسألة، وبيانَ وجه الجمع فيما يبدو من تعارض بين الآيتين الكريمتين، فنقول:

إن (العدل) الممكن والمستطاع بين الزوجات، والذي يُفهم من الآية الأولى، إنما هو العدل الذي يَدخل في قدرة المكلف، وهو هنا توفية الحقوق الشرعية، وتأديتها على الوجه المطلوب، من طعام وكساء ومسكن، وكل ما يليق بكرامة المرأة كمخلوق. فهذا -ولا شك- مما سُلِّط الإنسان عليه، ومُكِّن من القيام به، وجاء الخطاب الشرعي به، تكليفًا وإلزامًا والتزامًا؛ فإن قام به المكلف أُجِر ونال رضى الله وثوابه، وإن قصَّر فيه وفرَّط استحق غضب الله وعقابه.

أما (العدل) المنفي في الآية الثانية، فإنما هو العدل القلبي، إذ الأمور القلبية خارجة عن إرادة الإنسان وطاقته، فلا يتأتَّى العدل فيها، إذ لا سلطان للإنسان عليها. فالمشاعر الداخلية، من حب وكره، والأحاسيس العاطفية، من ميل ونفور، أمور لا قدرة للإنسان عليها، وهي خارجة عن نطاق التكليف الموجَّه إليه، فلا تكليف فيها؛ إذ من المقرر أصولاً أن التكاليف الشرعية لا تكون إلا بما كان مستطاعًا للمكلف فعله؛ أما ما لم يكن كذلك، فليس من التكليف في شيء.

وعلى ضوء هذا المعنى ينبغي أن تُفْهَمَ الآية الثانية، وهي الآية التي نفت إمكانية العدل بين الزوجات.

وهذا الذي قلناه وقررناه هو رأي سَلَفِ هذه الأمة وخَلَفِها، وهو الرأي الذي لا تذكر كتب التفسير غيره، ولا تعوِّل على قول سواه. وبيان ذلك إليك:

قال أهل التفسير في قوله تعالى: { فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة} قالوا: هذا في العشرة والقَسْم بين الزوجات الأربع والثلاث والاثنتين، فإن لم يمكن العدل بينهن فليُقتصر على واحدة؛ وتُمنع الزيادة على ذلك لأنها تؤدي إلى ترك العدل في القَسْم، وتدفع إلى سوء العشرة، وكلا الأمرين مذموم شرعًا، ومنهي عنه.

وعند تفسير قوله تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل} قالوا: أخبر تعالى بنفي الاستطاعة في العدل بين النساء، وذلك في ميل الطبع بالمحبة والحظ من القلب، فوصف الله تعالى حالة البشر وأنهم - بحكم الخِلْقة - لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض دون بعض. واستدلوا لهذا التوجيه في الآية، بسبب نزولها، وهو ما روته عائشة رضي الله عنها، قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: اللهم إن هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك، ولا أملك) يعني القلب، رواه أبو داود وأحمد وإسناد الحديث صحيح، كما قال ابن كثير.

بل كان صلى الله عليه وسلم يشدد على نفسه في رعاية التسوية بينهن، تطييبًا لقلوبهن، ويقول: {اللهم هذه قدرتي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) لإيثاره عائشة رضي الله عنها، دون أن يظهر ذلك في شيء من فعله. وكان في مرضه الذي توفي فيه يُطاف به محمولاً على بيوت أزواجه، إلى أن استأذنهنَّ أن يقيم في بيت عائشة، فأذنَّ له.

وعن قتادة، قال: ذُكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: اللهم! أما قلبي فلا أملك، وأما سوى ذلك، فأرجو. وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} يعني: في الحب والجماع.

ثم لما كانت الأمور القلبية وما في معناها خارجة عن قدرة الإنسان، توجَّه الأمر إلى ما هو داخل ضمن قدرته وفي مجال استطاعته، فقال تعالى: {فلا تميلوا كل الميل} أي: إذا مالت قلوبكم إلى واحدة دون غيرها، وهذا أمر لا مؤاخذة عليكم به، فلا يمنعكم ذلك من فعل ما كان في وسعكم، من التسوية في القَسْم والنفقة، وعدم الإساءة إليهن، ماديًا ومعنويًا. لأن هذا مما يستطاع، ويُطالب به المكلف. وفي الحديث: (من كانت له امرأتان، ولم يعدل بينهما، جاء يوم القيامة وشقه مائل) رواه أبو داود والنسائي.

وعلى ضوء ما تقرر وتبيَّن، يكون الجمع بين الآيتين بأن يقال: فإن خفتم ألا تعدلوا بين الزوجات في القَسْم وحُسن العشرة ونحوهما، فانكحوا واحدة، ولا تزيدوا على ذلك؛ وإنكم -أيها الناس- لن تستطيعوا أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه، فإنه وإن وقع القَسْم الصوري منكم، فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة؛ فمن كان منكم أميل بالطبع إلى إحدى الزوجات، فليتقِ الله في البواقي منهن، وليعدل بين من كان تحت عصمته في الحقوق الشرعية، ولا يدعوه الميل القلبي إلى إحدى الزوجات إلى عدم إعطاء باقي الزوجات ما لهن من حقوق شرعية.

وبما تقدم نأمل أن نكون قد وِفِّقنا في الجمع بين الآيتين، وإيضاحِ ما يبدو بينهما من تعارض ظاهر.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة