الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حديث : إنك ما دعوتني ورجوتني

حديث : إنك ما دعوتني ورجوتني

حديث : إنك ما دعوتني ورجوتني

متن الحديث

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( قال الله عزوجل : يا ابن آدم ، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي ، يا ابن آدم ، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ، ثم استغفرتني غفرت لك ، يا ابن آدم ، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا ، لأتيتك بقرابها مغفرة ) رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح .

الشرح

بين يدينا حديث يأسر القلب ، ويأخذ بمجامع النفس ، يستمطر الدمع ، ويهيّج في الوجدان مشاعر التوبة والرجاء ، لتتلاشى معه أسباب اليأس والقنوط ، إنه هتاف سماويٌّ لو تردد في جنباتنا لأفاض عليها شوقا وحنينا إلى خير من مُدّت إليه الأيادي ، ولهجت بذكره الألسنة ، فيالها من موعظة ، ويالها من تذكرة .

لقد جاء الحديث ، ليزفّ إلى الناس البشرى ، فرحمة الله واسعة ، وفضله عظيم ، لا يقف عند حدّ ، ولا يحصيه عدّ ، فغدا هذا الحديث إبهاجا للتائبين ، وأملاً للمذنبين ، وفرصة لمن أسرف على نفسه بالمعصية ، أو فرّط فيما مضى من حياته ، ولعلك – أيها القاريء الكريم – تدرك بذلك سر المكانة التي حازها هذا الحديث دون غيره ، حتى إن كثيرا من العلماء ليرون أنه أرجى حديث في السنة كلها .

وتتجلّى معالم الحديث في بيانه لأسباب حصول المغفرة ، ويأتي الدعاء في مقدّمة تلك الأسباب، والدعاء قربة عظيمة ، وصلة مباشرة بين العبد وربّه ، وهي سلاح المؤمن الذي يتسلّح به في الشدائد والكربات .

وقد حثنا الله تعالى على الدعاء في عدّة مواضع من كتابه ، فقال تعالى : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } ( غافر : 60 ) ، وقال سبحانه : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } ( البقرة : 186 ) ، بل جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : ( من لم يسأل الله يغضب عليه ) رواه الترمذي ، وصدق الشاعر إذ قال:

الله يغضب إن تركت سؤاله وبنيّ آدم حين يُسأل يغضب

بيد أن لهذه العبادة شروطاً ينبغي استكمالها ، ليكون الدعاء جديراً بالإجابة ، وأدعى للقبول ، فمن ذلك : حسن الظن بالله ، والرجاء والأمل بالمغفرة ، كما بيّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلّم في قوله : ( ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه ) رواه الترمذي ، ولابد أن يكون لهذا الرجاء رصيداً من العمل الصالح ، لا أن يكون مجرد أمنية وأحلاماً زائفة .

وإضافة إلى ذلك : فإن على المسلم حال دعائه أن يعزم في المسألة ، ويجزم في الطلب ، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يقولن أحدكم : اللهم اغفر لي إن شئت ، اللهم ارحمني إن شئت ، ليعزم المسألة ؛ فإنه لا مكره له ) رواه البخاري .

ثم ينتقل بنا المطاف إلى الحديث عن الاستغفار ، وهو طلب الستر والتجاوز عن الذنب ، وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على المستغفرين في كتابه فقال : { والمستغفرين بالأسحار } ( آل عمران : 17 ) ، كما رتّب حصول المغفرة عليه فقال : { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } ( النساء : 110 ) .

وعلاوة على ذلك ، فإن للاستغفار مزيد فضل على غيره من العبادات ، إذ لا تقتصر بركته على محو الخطايا وتكفير السيئات ، بل يمتدّ خيره إلى السماء فتنزل أمطارها ، وإلى الأرض فتنبت زروعها وثمارها ، ويحصل به النماء في الذريّة ، والقوّة في العُدّة ، ولا أدلّ على ذلك من قوله تعالى : { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا ، يرسل السماء عليكم مدرارا ، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا } ( نوح : 10 – 12 ) .

فمن هنا : لم يكن غريبا أن ترى الأمر بالاستغفار في كثير من الآيات الكريمات ، ولم يكن غريبا أن يتكرر الاستغفار على لسان كثير من الأنبياء والمرسلين ، بل كان نبينا صلى الله عليه وسلم يُعدّ له في المجلس الواحد مائة استغفار ، كما ورد في سيرته .

ولا يكون الاستغفار صادقا إلا حين يصدر من قلب مؤمن مستحضر لجلال الرب وعظمته ، نادم على ما كان منه من تفريط وتقصير ، عازم على التوبة والإنابة ، وإلا فهي توبة جوفاء ، لا تنفع صاحبها .

ثم إن أعظم أسباب المغفرة وأجلّها تحقيق جوانب التوحيد ، والإتيان به على أكمل وجه ، وقد أعلمنا ربنا بذلك في كتابه حينما قال : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } ( الأنعام : 82 ) ، فامتدح من كان إيمانه نقيّا خالصا من عوالق الشرك ، وبشّرهم بالسلامة من دخول النار ، ولا عجب في ذلك ، فإن الذنوب كلها تتصاغر أمام عظمة التوحيد ، ومن ثمّ تكفّل الله تعالى لمن لم يشرك به شيئاً أن لا يعذّبه ، كما جاء في حديث معاذ رضي الله عنه : ( وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يُشرك به شيئاً ) رواه البخاري .

وبهذا نكون قد انتهينا من تناول أحاديث الأربعين النووية للإمام النووي رحمه الله ، فالحمد لله على ما منّ به علينا ، ونسأله سبحانه أن يقيل عثراتنا ويعفو عن زلاتنا ويعيننا على طاعته ، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم .

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة