الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أمور حياتي كلها معطلة بما فيها الزواج والوظيفة، فهل من نصيحة؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أعاني منذ خمس سنوات من ابتلاء شديد، يتمثل في تعطل أمور حياتي كافةً، سواءً في مجال العمل، أو الزواج، أو تيسير شؤوني عمومًا، حتى إنني أُصاب بالمرض كثيرًا، ولا توجد وظيفة إلا وقد قدّمت عليها، كما أن لدي من المؤهلات ما يُناسب، ورغم ذلك قلت في نفسي لعلّ في الأمر خيرًا، واستمررت في التقديم طوال هذه السنوات إلى اليوم دون أي نتيجة.

أما في موضوع الزواج: فقد تقدّم لي الخُطّاب، لكن الأمور لا تكتمل، وحتى إن وافقت، فإن الطرف الآخر ينفر، ويبتعد فجأةً عندما تصبح الأمور جاهزةً، وبدون سبب، مع أنهم في البداية يُظهرون رغبتهم في الارتباط بي.

وقد تقدّم لي شخص ذو خُلق رفيع، مُلتزم، ومُتعلم، وكنا متفاهمين جدًا، ولكن في صباح يوم عقد القِران بعد سنة من الخطبة، اختلفنا على أمر بسيط لا يستدعي الانفصال، فقرر أن ننهي كل شيء، وكأنه لا توجد معرفة بيننا، فتألمت كثيرًا، وما زلت حتى الآن لم أُشفَ من تلك الصدمة، فهذه ليست المرة الأولى!

أنا محافظة بفضل الله على قراءة سورة البقرة يوميًا منذ سبع سنوات، ولا أُقصّر في صلواتي، وأحرص على أدائها في وقتها، وأصلي قيام الليل، وصلاة الضحى، والسنن الرواتب، وأُكثر من الصدقة، والذكر، وخاصةً الاستغفار، ولم أترك صيغة دعاء إلا ودعوت بها بيقين وبكاء، وأدعو في كل أوقات الاستجابة: في السجود، وبين الأذان والإقامة، وغيرها، وأختم القرآن كل ثلاثة أيام بنية التقرب إلى الله، وطلب رضاه، ويشهد الله أنني في دعائي أحرص على التوبة من كل ذنب، وأعفو عن كل من ظلمني، وأُرقي نفسي يوميًا بالرقية النبوية، ثم أغتسل بماء الرقية، ووالدتي تُرقيني أيضًا.

لقد أتعبني هذا الحال كثيرًا؛ فالسنوات تمر، وأنا أسعى، ولكن لا توجد نتيجة، فماذا يتوجب علي أن أفعل أكثر؟ فأنا والله لم أعد أستطيع الصبر أكثر؛ لأنني تحملت فوق طاقتي.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ مرام حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبًا بك في إسلام ويب، ونسأل الله أن يُفرّج كربك، ويجبر كسرك، ويعجّل لك بالعطاء الجميل الذي يليق بثباتك، وصبرك، وتعبك، وأن يجعل هذا البلاء بدايةً لفرج كبير.

وقد تفهمنا حديثك جيدًا، وسنقسم لك الجواب في نقاط؛ لتجدي فيه الطريق الذي تبحثين عنه بأمر الله:

أولًا: ما تمرين به ليس دليل بُعد عن الله بل قرب منه؛ فمن يقرأ سورة البقرة يوميًّا، ويقوم الليل، ويختم القرآن كل ٣ أيام، ويُكثر من الذكر، والاستغفار، ويرقي نفسه، ويتحر أوقات الإجابة، فهو على خير كثير، ولذلك ابتلي.

نعم أختنا: فالابتلاء لا يصيب العبد؛ لأنه بعيد، بل أحيانًا يشتد على القريب؛ لأن الله يحبّه، ويريد أن يُطهّره، ويرفعه، ويختبر صدقه؛ قال رسول الله ﷺ: «إنَّ عِظَمَ الجزاءِ مع عِظَمِ البلاءِ، وإنَّ اللَّهَ إذا أحبَّ قومًا ابتلاهُم، فمَن رضِيَ فله الرِّضا، ومَن سخِطَ فله السُّخطُ»، فلا تظنّي أن ما تمرين به هو علامة غضب، بل هو امتحان "في آخر المشوار"، الذي يُرجى بعده النصر العظيم.

ثانيًا: "والله يعلم وأنتم لا تعلمون"، فما يدريك -أختنا- في أن الله صرف عنك الشر بصرف الشاب عنك؟! فلعلّ الزواج الذي خرج من بين يديك، وكنت ترينه حلمًا، كان في علم الله ابتلاءً لا تُطيقينه، أو شقاءً يُعطّل قلبك، أو قيدًا يُبعدك عن ربك، فنجّاك الله منه، وإن كنت لا ترين النجاة!

لعلّ الله صرفه عنك لأنك سجدت له بدمعة صدق، فكان من رحمته أن لا يبتليك بما يُفسد تلك السجدة، وأن لا يُدخل إلى دارك من لا يعلم قدرك عند الله.

أختنا الفاضلة: كم من أخت فرحت بزواج، وظنّت أنه الفرج، ثم لم يكتمل العام حتى ذاقت مرارة الإهمال، أو القسوة، أو الطلاق، ثم بقيت تحمل في قلبها ألمًا، وفي سمعتها جرحًا، وفي واقعها قيدًا لا يُنسى، فلا هي عروس تُهنَّأ، ولا مطلقة يُرغب فيها.

لذا نقول لك: ما يدريك، لعلّك كنتِ ستصبحين "عنوانًا للحزن الصامت" لو تم الزواج، أو كنت ستُمنعين من خير أكبر منه، فحال الله بينك وبينه ليعطيك لا ليمنعك، وليُهديك لا ليُقصيك؛ أليس الله القائل: ﴿وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْـًٔا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْـًٔا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، فثقي بمن يعلم وأنت لا تعلمين، واطمئني لمن يدبّر الأمر كله، وأنتِ لا تدركين إلا ظاهره.

ولعل الله يدّخر لك زوجًا لم يدخل حياتك بعد، أو ليرفعك في درجات الصابرين، أو ليدفع عنك شرًّا عظيمًا، أو لأنه يريد لكِ دعوةً لم تبلغيها بعد، ثم إذا بلغتها جاء الفرج كالسيل، وقد قال سفيان الثوري: "ما كان الله ليحرم عبدًا صادقًا شيئًا طلبه، إلا وهو يدّخر له ما هو خير".

ثالثًا: تأخُّر الإجابة ليس حرمانًا؛ بل إعداد فلا تعجلي، ولا تتوقفي عن الدعاء؛ فقد قال رسول الله ﷺ: «يُستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوتُ فلم يُستجب لي».

رابعًا: لا ينبغي أن نتغافل عن أنه في بعض الأحيان يكون سبب ذلك: عيناً، أو سحراً، أو أذىً من هذا الاتجاه -مع التسليم أنها قدر من أقدار الله-، خصوصًا إن كانت الأعراض تتكرر بهذه الصورة الغريبة، من تعطل العلاقات في اللحظة الأخيرة، وفي هذه الحالة؛ من الجيد المحافظة على الرقية الشرعية، وخاصةً:
- المداومة على قراءة البقرة يوميًا.

- قراءة الرقية على ماء مرقي ثم الشرب منه.

- الذهاب إلى راقٍ ثقة متخصص لفحص الحالة إن أمكن.

- قد يكون هناك ذنب قديم لم تتوبي منه كما يجب، أو تعلق عاطفي ترك أثرًا، فراجعي قلبك، وتوبي عن كل ما تذكرينه من علاقات، أو لحظات ضعف قديمة، وأكثري من الدعاء، قولي: "اللهم طهر قلبي من كل شائبة، واختر لي ولا تُخيّرني، واصرف عني كل شر أعجز عن دفعه"؛ فبعض الناس لا يُفتح له بابٌ من أبواب الدنيا إلا بعد أن يُسلّم لله تسليمًا كاملًا، وينكسر بين يديه فيرضى بكل شيء.

خامسًا: ماذا تفعلين الآن؟ إليك خطةً عمليةً، فيها طمأنينةً، ودعاءً، وفتحًا لأبواب جديدة:

1. حافظي على قيام الليل، ولكن ركّزي على ركعتين طويلتين بالدعاء والبكاء، واجعلي دعاءك فيها صادقًا، وقولي: "اللهم اجبرني جبرًا يليق بكرمك، ويسر لي أمري كله، واغنني عن كل من سواك، وارزقني زوجًا صالحًا، وعملاً طيبًا، وخيرًا يغنيني عن السؤال، وفرجًا لا يدع في صدري همًّا ولا في عيني دمعًا".

2. كرّري هذا الذكر بعد الفجر: "حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم" 7 مرات، صباحًا ومساءً؛ فقد جاء في الحديث أن من قاله كفاه الله همه.

3. خذي خطوةً جديدةً عمليةً: تعرفي على أخوات صالحات في المساجد؛ فالتعارف باب من أبواب الخير، وافتحي باب عمل تطوعي، أو دورة جديدة، أو مجال لم تطرقيه من قبل؛ فأحيانًا يأتي الرزق من طريق لا نتخيله.

وأخيرًا: كوني على يقين بأن ما تمرين به هو الخير لك، وسيجعل الله لك منه العوض، فلا تنهاري في آخر الطريق، وكوني كأم موسى حين ألقت ولدها في البحر، فربط الله على قلبها.

أحسني الظن بالله، وكوني على يقين بأن الله سيجبرك بما يعلم أنه يصلحك، فاصبري وثابري، ولا تتركي الدعاء، ولا تظني أن الصبر لا ثمرة له.

نسأل الله أن يحفظك، وأن يبارك فيك، وأن يكتب لك الأجر، والله الموفق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً