الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أرفض الخطاب لمجرد أشكالهم رغم أني عادية في الجمال!

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا فتاة في الرابعة والعشرين من العمر، أرفض بعض الأشخاص لمجرد أشكالهم، وهي مسألة في نفسي لا أجد لها تفسيرًا؛ إذ إنني أرفض المتقدم للزواج بسبب الشكل، علمًا أنه على دين وخلق، ولكنني أشعر أنه ليس بالشخص الذي أتصوره معي في حياتي كزوج، حتى إنني عندما أُصلّي الاستخارة لا أشعر بشيء أو تغيير في الرأي.

وأنا عادية جدًّا في الجمال، ولست فائقة الجمال، ولا جميلة جدًّا، بل عادية، وربما أكثر من العادية، وسؤالي: هل هناك سبب في حالتي لهذا الرفض؟ وهل عندما أُصلّي الاستخارة تظهر علامات؟ وعندي تخوّف من الزواج، فهل هناك حل لذلك؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ Noha حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أختي الكريمة: ليس من الخطأ أن يتحرى الرجل أو المرأة الجمال عند التفكير في الزواج؛ فقد شرع الإسلام "الخِطبة" التي يتم فيها "النظر الشرعي"، ويتحقق بها القبول النفسي والشكلي من كلا الطرفين؛ والهدف من ذلك هو تحقيق المودّة والرحمة والألفة والمحبة، كما جاء في حديث المغيرةِ بنِ شُعبةَ رضي الله عنه، أنه خطب امرأةً فقال النبيُّ ﷺ: «انظُرْ إليها؛ فإنَّه أحرى أن يُؤدَمَ بينكما».

ولكن، مع ذلك، فقد رغّب الإسلام فيما هو أعظم من الشكل والمظهر، وهو الدين والأخلاق، ففي حقّ المرأة قال النبي ﷺ: «تُنكَحُ المرأةُ لأربعٍ: لمالِها، ولحسَبِها، ولجمالِها، ولدينِها؛ فاظفَرْ بذاتِ الدِّينِ ترِبَتْ يداكَ» (رواه مسلم)، وفي حقّ الرجل قال ﷺ: «‌إِذَا ‌خَطَبَ ‌إِلَيْكُمْ ‌مَنْ ‌تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ» (رواه الترمذي).

فصاحب الدين والأخلاق كريمٌ في تعامله، تقيٌّ في قوله وفعله، وما قيمة الجمال إذا غاب الدين والأخلاق؟ بل قد يصبح نقمة على صاحبه.

أختي الفاضلة، تكمن المشكلة التي تواجهكِ في "التصوّر الذهني" لزوج المستقبل، وهو تصوّرٌ يصنعه الخيال المبالَغ فيه إلى حدّ طلب الكمال أو المثالية، وهذا التصوّر تُغذِّيه عدّة أسباب، منها:

أولًا: التشبُّع بالمعايير الشكلية: وهي المعايير التي تقدّمها مواقع التواصل الاجتماعي أو المسلسلات والأفلام، هذه الوسائل تحرص على تقديم الجانب الإيجابي الجاذب للجمهور، وتتجاهل السلبيات لتُغري المتابع بمثالية الموقف.

ثانيًا: تأثير الثقافة السائدة: يؤدّي هذا التجاهل للسلبيات إلى تشرُّب تلك الثقافة واكتساب تلك المعايير، فيعيش الشاب أو الفتاة في حالةٍ من السعي لتحقيق "الصورة المثالية" الغارقة في الكمال، وينعكس كل ذلك على اختياراته الحقيقية في الحياة، فيشعر بحزنٍ شديدٍ وعدمِ رضا إذا لم يُحقّق معايير الكمال التي يؤمن بها.

ثالثًا: استحضار التجارب السلبية: فربّما عقلكِ الباطن يستحضر تجارب سلبية، وربما قاسية بعد الزواج، سواء من صديقات أو قريبات، أو ما قد تُشاهدينه عبر المسلسلات ومواقع التواصل الاجتماعي، فتُشعرك بالخوف والتردّد والفزع من تكرار مثل هذا الأمر في حياتكِ.

رابعًا: الشعور بأنّ الزواج نوعٌ من تقييد الحرية والغرق في المسؤوليات الكثيرة كالأولاد والبيت والزوج، خصوصًا عندما تستمعين للشكوى من المتزوجات، وهذا يخلق حاجزًا نفسيًا يُشعرك بالخوف من الإقدام على هذه التجربة.

خامسًا: الشعور بأنّ الزواج سيحرمكِ من التمتّع والعيش بحرّية، ويحرمكِ من الكثير مما اعتدتِ عليه.

سادسًا: عدم الثقة بالنفس: فخوف النفس من المسؤولية بعد الزواج، وما تتطلّبه من أعباءٍ واجتهاد؛ يجعل البعض يتجنّب الدخول في هذا الأمر بالكليّة، بسبب عدم الثقة في نفسه أولًا أنّه قادر على حُسن إدارة هذه الحياة والتمتّع بما فيها من مودّةٍ ورحمةٍ وسكن، ثم تجاهل الجوانب الإيجابية الكثيرة في الحياة الزوجية ثانيًا.

أختَنا الفاضلة، لا شكّ أنّ هذه المخاوف النفسية - بعضها أو كلّها - تنعكس على قراركِ، فيتمّ رفض الزوج، فكلّ هذا يُقيّد حريتكِ ويُشعركِ بأنكِ لن تعيشي حياتكِ "المثالية" التي تحلمين بها، وهذا أيضًا من حصاد تلك الثقافة التي يتربّى عليها الكثير من الشباب اليوم، والتي تدعو للسعي نحو المتعة والابتعاد عن المسؤولية ومواجهة ضغوطات الحياة وصعابها.

أختي الفاضلة، حتى تستعيدي توازنكِ وتذهبي مخاوفكِ، تحتاجين أن تزيلي تلك الصورة المثالية عن زوج المستقبل، سواء في الشكل أو في طبيعة الحياة الزوجية، فالرجل ذو الصفات المثالية، أو ما يُطلق عليه "فارس الأحلام"، هو ضربٌ من الخيال.

كما أنّ الحياة الزوجية الغارقة في الرومانسية والتمتّع الدائم هي نوعٌ من الكمال الذي تطمح إليه النفس، ولكنه نوعٌ من اللاواقعية ومجانبة حقيقة الأشياء، فالإنسان كائنٌ حيّ تعتريه المتغيّرات في شكله وطباعه وسلوكه؛ لذلك يجتهد الإنسان في تحقيق التوافق النفسي والعقلي قدر استطاعته، ولا يطلب الكمال أو المثالية لأنّه لن يجدها، وسيتعب كثيرًا إن كابر وتعمد أن يحققها في حياته.

أختي الفاضلة، هذه هي أهمّ الأسباب لحالة الرفض التي تعيشينها، وحتى تتخلّصي من هذا الواقع ومن هذه المخاوف والرغبة في الكمال، ننصحكِ بالتالي:

أولًا: كوني واقعية: في اختيار مواصفات شريك حياتكِ بما يُحقّق الرضا والقبول القلبي، وابتعدي عن المثالية والسعي للكمال، ويتحقق ذلك ببناء الثقافة الشرعية، والاطلاع على قيمة الإنسان في أخلاقه وتقواه لله تعالى وأدبه، والتأمّل في التجارب الفاشلة لمن اختارت الشكل أو المال فقط دون الدين والأخلاق، كيف تعيش فقدان الحب والتفاهم والسعادة والاستقرار الأسري.

ثانيًا: افهمي طبيعة الزواج ومقاصده: فالحياة الزوجية مزيجٌ من الحب، والمسؤولية، والتعاون، والتكامل، والتوافق، والرضا، والتغاضي، والتنازل، والتجاهل، بهذا المزيج يمكن للإنسان أن يعيش حياةً مستقرة، فالحياة الزوجية ليست مجرّد متعةٍ أو رومنسية دائمة في كل وقت، وهذه هي الحياة عمومًا، قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}.

ثالثًا: لا تُعمّمي التجارب: وجود أيّ تجربةٍ سلبيةٍ في الحياة الزوجية ممن حولكِ، أو سمعتِ بها، أو قرأتِ عنها، أو شاهدتِها، لا يعني بالضرورة أن زواجكِ سيكون نتيجته سلبية، وللتغلّب على هذه المخاوف لا بدّ من الاستعداد النفسي والعملي قبل الزواج، في تحمّل المسؤولية وإدارة المنزل، وبناء ثقافة الأمومة بشكلٍ مبكر، لأنها المهمة التي اختاركِ الله لها وجعلها من أرقى المهام في البشرية.

رابعًا: تذكّري المعايير الشرعية: وضع الإسلام لنا معايير للقبول، جعل في أعلاها الدين والأخلاق، ولم يُغفل الشكل والمظهر، ولكنه لم يجعله أساسًا ومعيارًا كليًا، لذلك عليكِ أن تتحرّي في زواجكِ أن يكون ذا خُلقٍ ودينٍ أولًا، فهو الخيار الذي دعانا إليه الإسلام ورغّبنا فيه.

خامسًا: ابتعدي عن المصادر السلبية: الابتعاد عن مصادر إثارة وتعزيز ثقافة الكمال أو المثالية، سواء أشخاص أو وسائل إعلام أو غيره، من أهم أسباب الخروج من هذه المخاوف.

أختي الفاضلة، طبيعة الاستخارة أنها سؤالُ اللهِ تعالى من علمه وقدرته، فهي خروجٌ من حول الإنسان وتدبيره إلى الالتجاء إلى من بيده الأمر والعلم والإحاطة سبحانه.

لذلك تكون استجابة الاستخارة بتيسيرٍ وتسهيلٍ أو منعٍ ودفعٍ لما اختاره الله لكِ -سواء كان ما تريدينه أو ما لا تريدينه- ثم يتبع ذلك شعورٌ بالرضا يسكن القلب، فلا تجدي معه أيَّ اعتراضٍ أو سخط، فليس شرط الاستخارة أن يُحقّق الله ما تريدين، وإنّما الخير فيما اختاره الله، ورأيتِ بوادره تتيسّر في حياتكِ.

أخيرًا -أختي الفاضلة- أكثري من الدعاء والتضرّع أن يُيسّر لكِ الخير وأن يرزقكِ الزوج الصالح، واجتهدي في الاستقامة على منهج الله تعالى والحفاظ على طاعته، حتى يُيسّر الله أموركِ، ويذهب ما فيكِ من سوء، ويُوفّقكِ في حياتكِ.

وفّقكِ الله ويسّر أمركِ.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأكثر مشاهدة

الأعلى تقيماً