الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل كل من عاش طفولةً بائسةً سيمرض نفسيًا عند الكبر؟

السؤال

السلام عليكم.

سمعت أن الطفولة البائسة للطفل ينتج عنها أمراض نفسية في الكبر، أي أنها تبدأ بعد المراهقة، فهل كل طفل يعيش طفولةً بائسةً معرض للأمراض النفسية -وما أكثر البؤس في بلادنا العربية للأسف-؟، وهل يعني ذلك أن أكثر من نصف عدد الشعوب العربية تعاني أمراضًا نفسيةً؟

أتمنى أن أجد الجواب لديكم، كيف تكون رحمة الله عز وجل هنا، والله سبحانه وتعالى من أسمائه الحسنى العادل، فلست قادرةً على استيعاب هذا الأمر، فهل يجزم أن من عاش طفولةً بائسةً سيمرض نفسيًا عند الكبر؟

أريحوني أراحكم الله في الدنيا والآخرة، وجزاكم الله خير الجزاء، وجعل أعمالكم خالصةً لوجهه الكريم.

أرجو من الله أن تجيبوني جوابًا شاملًا ومباشرًا.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ .. حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فإن النموذج المقبول في ما يخص الأسباب المتعلقة بالأمراض النفسية والعقلية: هو ما يسمى بالنموذج التضافري؛ أي أن عدة عوامل تتضافر مع بعضها البعض لتعطينا النموذج المرضي، وفي حالات كثيرة قد لا نجد أي نوع من الأسباب، والعوامل التضافرية تُقسم إلى: عوامل مُرسِّبة، وعوامل مُهيِّئة، وعوامل مُعجِّلة، وعوامل استمرارية، فإذا توفرت هذه العوامل مع بعضها البعض؛ ربما تعطينا النموذج المرضي لدى بعض الأطفال، وكذلك الكبار، فالعوامل المُهيِّئة كثيرة: (التركيبة الجينية، الشخصية)، وكذلك العوامل المُرسِّبة تلعب دورًا أساسيًا، منها: الظروف الحياتية، وما أسميته أنت بالبؤس ربما يكون الطفل أصلاً لديه الاستعداد للاضطراب النفسي؛ بمعنى أن تكوينه الفطري والغريزي يحمل جوانب الاستعداد للأمراض النفسية.

ولا نستطيع أن نقول: إن البؤس سوف ينتج حتمًا الأمراض النفسية، وقد شاهدنا من عاشوا حياةً هانئةً، ومنعمةً، وأصيبوا بهذه الأمراض، ولكن نعرف أن الشقاء في الطفولة، والصعوبة في الطفولة، واليتم في الطفولة، وعدم الانضباط في تربية الوالدين؛ سيجعل الطفل أكثر عُرضةً للرضوض النفسية، والهشاشة النفسية، مما يسبب لديه بعض الاضطرابات النفسية في المستقبل، ولكن لا نستطيع أن نقول: إن هذا الأمر يكون على الإطلاق، بل هو أمر نسبي، وليس أكثر من ذلك.

هناك دراسة مشهورة أُجريت في بريطانيا منذ حوالي ثلاثين عامًا، وهذه الدراسة أُجريت في منطقة تسمى: (كامبر وُل)، وهي منطقة في جنوب لندن، وهذه المنطقة يوجد فيها أكبر معهد للطب النفسي في بريطانيا، وربما في العالم؛ حيث لُوحظ أن الأبناء الذين يفقدون والديهم قبل عمر الحادية عشرة، ربما يكونون عرضةً للأمراض النفسية، وخاصةً إذا لم يكن هنالك نوع من التربية الوالدية التعويضية؛ بمعنى أن شخصًا ما قد قام لدرجة كبيرة في مقام الوالد والوالدة بصورة معقولة، وهذه الدراسة أشارت إلى ذلك، وإن كان هنالك من انتقد هذه الدراسة.

وأنا -أيتها الفاضلة الكريمة- لا يمكن أن أنكر ما أسميته بدور الحياة البائسة، والتي أقصد بها حياة التشرد، وأطفال الشوارع، وفقدان العوامل الرئيسية والأساسية على النطاق الاجتماعي، والمعيشي، والتربوي الذي يجعل الطفل مستقرًا.

وخلاصة الأمر: إن البؤس والفقر يؤديان أحيانًا إلى أمراض نفسية، وانحرافات، ولكن ليست هذه بقاعدة، وليست أمرًا حتميًا، أو ضروريًا.

أختي الكريمة الفاضلة: رحمة الله تعالى شاملة، ولله في خلقه شؤون، ولا شك في ذلك، وكثيرًا مما يحدث لنا من تعاسة هو من صنع أيدينا، فأرجو أن لا تضعي هذا الأمر في إطار فلسفي، وأرجو أن لا يسبب لك أي نوع من الوسوسة؛ لأن الإنسان إذا بحث في الأمور بصورة تسبب له القلق، وخاصةً إذا لجأ في البحث عن التفاصيل، وما وراء التفاصيل، فهذا سيجعل الإنسان يعيش في حيرة من أمره، والأمر واضح جدًا، وهو أن العوامل التي تؤدي إلى الأمراض النفسية هي عوامل كثيرة، تتضافر مع بعضها البعض، وهنالك حالات كثيرة لا نجد أي عامل، أو سبب اجتماعي، أو حياتي سبب هذه الأمراض النفسية.

العوامل الوراثية لا يمكن تجاهلها أبدًا في الأمراض النفسية، وإن كان المرض النفسي لا يورث إرثًا مباشرًا، إنما الاستعداد له هو الذي يورّث، وحين تأتي العوامل الأخرى كالعوامل الحياتية السلبية، فهذا ربما يؤدي إلى تكوين نموذج مرضي، ولكن كما ذكرتُ سابقًا، وأكرر: ليس من الضروري أن يكون هذا هو الحال دائمًا، وليس هذا من الضروري أن يكون قاعدةً على الجميع.

نشكرك على تواصلك مع إسلام ويب، ونسأل الله أن يحفظ الجميع، وأن يعافي أمة الإسلام.

وبالله التوفيق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً