الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ابتعدت عني دون سابق إنذار بعد أن أحببتها!

السؤال

السلام عليكم..

أحببت فتاة، وللأسف بعد فترة ابتعدت دون سابق إنذار، وعندما أتذكر أتعب، وأشعر بألم في صدري! ومر على غيابها 9 سنوات، وإلى الآن أنتظرها!

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ بندر حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

الحب الشرعي جائز بل مستحبٌ وواجب، بشرط أن يكون في محله الشرعي والطبعي، ومنه حب الزوجة، شريطة ألا يصل إلى حد الغلو والإفراط من ترك واجب أو ارتكاب محرم (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمة إن في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكرون).

وأما العشق –وهو التعلق الزائد عن الحد بالمحبوب– فهو بطبيعته محرم؛ لتضمنه أصل الغلو والخروج عن حد التوسط والاعتدال في حب المعشوق، بحيث قد يزيد عن حدّه ويسيطر على تفكير صاحبه، ويصيبه بأمراض الهَمْ الاكتئاب والعزلة والاضطراب، بل قد يصيب صاحبه بالجنون كما أصيب به على مر التأريخ كثيرون، ومثل ذلك فمن الطبيعي أن يفضي إلى محذورات ومخالفات شرعية في ذاتها أو في غيرها.

وكما قيل في الحكمة: (ما رأيت إفراطاً إلا ورأيت بجانبه حقاً مضيّعاً)، أو كما قيل : (الأمر إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده).

وتزداد حرمته إذا كان في غير محله، كعشق امرأة أجنبية أو البغايا أو المردان الذكور؛ ذلك لأن الغلو والإفراط: وهو مجاوزة الحد والخروج عن حالة التوسط والاعتدال في حد ذاته محرم ولو في الدين (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم)، وفي الحديث: (لا يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه)، وهذا في الدين، فكيف في غيره من أمور الدنيا المباحة؟ فكيف في غير المباحة كعشق المرأة الأجنبية؟

والعشق -كما قال ابن القيم رحمه الله- أنه مرض من أمراض القلوب، فإذا تمكن أو استحكم من القلب صعب علاجه، وذلك -والله أعلم- لارتباطه بأنواع الفتن الأربعة المجموعة في قول الشاعر:

إنّي بـليتُ بـأربـعٍ لـم يخـلـقوا ** إلا لـفرط شـقاوتي وعـنائي
إبليس والدنيا ونفسي والهوى ** كيف الخلاص وكلهم أعدائي؟

إلا أن العشق لا يأخذ حكم التحريم إذا غلب على صاحبه بغير قصد منه وإرادة واختيار، كما حصل في التأريخ لشعراء معروفين بـ (الحب العذري)، وهو العشق المفرط حد الهيام من غير ارتكاب للإثم والحرام، مراعاةً لقاعدة الاستطاعة، وأنه (لا تكليف إلا بالمقدور عليه)، بدليل قوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم)، وقوله سبحانه: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)، إلا أنه لا يعذر في واجب معالجة نفسه بالعلاج الشرعي والنفسي، ولذلك أوصيك -أخي العزيز- باتباع الخطوات الآتية:

1) أن تدرك أن العشق لا يصيب إلا النفوس الضعيفة والفارغة والخاوية، كما قال الشاعر:

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ** فصادف قلباً خالياً فتمكنا.

إن الشباب والفراغ والجدة ** مفسدةٌ للمرء أي مفسدة

ولذا فإني أنصحك بملء فراغك ما أمكن بما ينفعك -وفقك الله- من الأعمال والأنشطة والبرامج المفيدة الدينية، كالازدياد من طلب العلم النافع، والعمل الصالح، وذكر الله وقراءة القرآن، وكذا مزاولة الرياضة، لاسيما الاشتراك في الأندية الرياضية المختلفة، ومثلها الخروج إلى المتنزهات والتردد على المكتبات العامة ونحوها.

2) كما يجب أن تدرك أنك -غفر الله لك- مخالف للشرع من جهة، وأنك مبتلىً بمرضٍ من أمراض القلوب والنفوس، فعليك بكثرة اللجوء إلى الله تعالى بالدعاء، والذكر، والاستغفار، والطاعة، وتنمية الإيمان بلزوم الصحبة الصالحة، وقراءة القرآن لطرد وساوس النفس والهوى والشيطان.

3) لا علاج لك -أخي الكريم- أنجع وأنفع لدائك بعد ذكر الله من الزواج؛ وذلك إذا توفر لك البديل الشرعي من صرف ذهنك وإرادتك إلى محبوبٍ شرعي، وبذلك يزول أو تخف حدّة المرض -بإذن الله تعالى، لقوله -صلى الله عليه وسلم- : (لم يُرَ للمتحابين مثل النكاح)، وهو حديثٌ حسن. فالمبادرة المبادرة إلى الزواج ما أمكن إذا توفرت القدرة عليه؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- : (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) متفق عليه.

4) أن يدرك العاشق أن العشق وسيلة، والوسائل تعطى أحكام المقاصد والغايات، فليحذر من أن يفضي به العشق إلى محذور شرعي، فعليه أن يلزم واجب غض البصر وإحصان الفرج والعفة عن الحرام (قُل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبيرٌ بما يصنعون)، (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله)، وفي الحديث: (من يتصبر يصبره الله، ومن يستعف يعفه الله، ومن يستغنِ يغنه الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيراً ولا أوسع من الصبر) متفق عليه.

5) أن تدرك -على أقل تقدير- أن الحب من طرف واحد نوع من السفه والعبث وقلّة العقل، حيث ربما لا يبادلك الطرف الآخر أصل الحب بدليل عزوفه عنه تسع سنوات، فكيف بالعشق؟ وعليه فلا بد للعاشق من اليأس التام من محبوبته حد انقطاع الأمل والرجاء فيها. واعلم أنك لن تلبث حتى يبدلك الله بالحب والزواج الشرعي خيراً مما فاتك وتعلق قلبك به بالباطل، فقد صح في الحديث قوله -صلى الله عليه وسلم- : (من ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه)، وكم رأينا وسمعنا من عاشقين هام بعضهم ببعض فما أن تزوجوا حتى زال عشقهم وهيامهم، بل زال حبهم أصلاً، بل دخلت حياتهم العداوة والبغضاء، ولذلك اشتهر عند العرب قولهم: (إن نكح الحب فسد)، أو كما يقال: (الزواج مقبرة الحب)، فمعلوم أن أيـام الخطبة أو العقد يتعلق الطرفان ببعضهما أكثر من أيام الزواج، كما أن أسعد أيام الزواج هي الأشهر الأولى فقط، حيث تتلاشى مشاعر الغرام غالباً بين الطرفين بعد تعرّف بعضهما على بعض عن واقع لا خيال، ويدخلان معترك الحياة وهو أمر طبيعي.

يا فؤادي رحم الله الهوى ** كان صرحاً من خيالٍ فهوى.

6) ولأن النفوس تمرض كما تمرض الأبدان (وفي أنفسكم أفلا تبصرون)؟ فإني أشير عليك برقية نفسك بأذكار اليوم والليلة، وقراءة القرآن، والدعاء، قال تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعـانِ فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون). ولا مانع بل من المنبغي لك إذا لزم الأمر مراجعة من تثق به من الأطباء النفسانيين.

أسأل الله تعالى أن يفرج همك، وأن يشفيك ويعافيك من دائك الذي أقلقك وأغمك، وأن ينير عقلك ويشرح صدرك ويزكي نفسك، ويحفظك من كل سوء ومكروه ،وأن يبدلك ويعوضك خيراً مما أخذ منك، ويسعدك في الدنيا والآخرة.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً