واختلف العلماء في  الكبائر   على أقوال :  
فقيل : سبع .  
وقيل : سبع عشرة .  
وقيل : ما اتفقت الشرائع على تحريمه .  
وقيل : ما يسد باب المعرفة بالله .  
وقيل : ذهاب الأموال والأبدان .  
وقيل : سميت كبائر بالنسبة والإضافة إلى ما دونها .  
وقيل : لا تعلم أصلا . أو : أنها أخفيت كليلة القدر .  
وقيل : إنها إلى السبعين أقرب .  
وقيل : كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة .  
وقيل : إنها ما يترتب عليها حد أو توعد عليها بالنار ، أو اللعنة ، أو الغضب ، وهذا أمثل الأقوال .  
واختلفت عبارة قائليه :  
منهم من قال : الصغيرة ما دون الحدين : حد الدنيا وحد الآخرة .  
ومنهم من قال : كل ذنب لم يختم بلعنة أو غضب أو نار .  
 [ ص: 526 ] ومنهم من قال : الصغيرة ما ليس فيها حد في الدنيا ولا وعيد في الآخرة ، والمراد بالوعيد : الوعيد الخاص بالنار أو اللعنة أو الغضب ، فإن الوعيد الخاص في الآخرة كالعقوبة الخاصة في الدنيا ، أعني المقدرة ، فالتعزير في الدنيا نظير الوعيد بغير النار أو اللعنة أو الغضب .  
وهذا الضابط يسلم من القوادح الواردة على غيره ، فإنه يدخل فيه كل ما ثبت بالنص أنه كبيرة ، كالشرك ، والقتل ، والزنا ، والسحر ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ، ونحو ذلك ، كالفرار من الزحف ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، وعقوق الوالدين ، واليمين الغموس ، وشهادة الزور ، وأمثال ذلك .  
وترجيح هذا القول من وجوه :  
أحدها : أنه هو المأثور عن السلف ،   كابن عباس ،   وابن عيينة ،   وابن حنبل  رضي الله عنهم ، وغيرهم .  
الثاني : أن الله تعالى قال :  إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما      [ النساء : 31 ] . فلا يستحق هذا الوعد الكريم من أوعد بغضب الله ولعنته وناره ، وكذلك من استحق أن يقام عليه الحد لم تكن سيئاته مكفرة عنه باجتناب الكبائر .  
الثالث : أن هذا الضابط مرجعه إلى ما ذكره الله ورسوله من الذنوب ، فهو حد متلقى من خطاب الشارع .  
الرابع : أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الكبائر والصغائر ،      [ ص: 527 ] بخلاف تلك الأقوال ، فإن من قال : سبع ، أو سبع عشرة ، أو إلى السبعين أقرب - : مجرد دعوى .  
ومن قال : ما اتفقت الشرائع على تحريمه دون ما اختلفت فيه - : يقتضي أن شرب الخمر ، والفرار من الزحف ، والتزوج ببعض المحارم ، والمحرم بالرضاعة والصهرية ، ونحو ذلك - ليس من الكبائر ! وأن الحبة من مال اليتيم ، والسرقة لها ، والكذبة الواحدة الخفيفة ، ونحو ذلك - : من الكبائر ! وهذا فاسد .  
ومن قال : ما سد باب المعرفة بالله ، أو ذهاب الأموال والأبدان - : يقتضي أن شرب الخمر ، وأكل الخنزير والميتة والدم ، وقذف المحصنات - ليس من الكبائر ! وهذا فاسد .  
ومن قال : إنها سميت كبائر بالنسبة إلى ما دونها ، أو كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة - : يقتضي أن الذنوب في نفسها لا تنقسم إلى صغائر وكبائر ! وهذا فاسد ، لأنه خلاف النصوص الدالة على تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر .  
ومن قال : إنها لا تعلم أصلا ، أو إنها مبهمة - : فإنما أخبر عن نفسه أنه لا يعلمها ، فلا يمنع أن يكون قد علمها غيره . والله أعلم . وقوله : وإن لم يكونوا تائبين - لأن التوبة لا خلاف أنها تمحو الذنوب ، وإنما الخلاف في غير التائب .  
وقوله : بعد أن لقوا الله تعالى عارفين - لو قال : مؤمنين ، بدل قوله : عارفين ، كان أولى ، لأن من عرف الله ولم يؤمن به فهو كافر . وإنما اكتفى بالمعرفة وحدها الجهم ، وقوله مردود باطل ، كما تقدم . فإن      [ ص: 528 ] إبليس عارف بربه ،  قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون      [ الحجر : 36 ] .  قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين   إلا عبادك منهم المخلصين      [ ص : 82 83 ] . وكذلك  فرعون  وأكثر الكافرين . قال تعالى :  ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله      [ لقمان : 25 ] .  قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون   سيقولون لله      [ المؤمنون : 84 - 85 ] . إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى .  
وكأن الشيخ رحمه الله أراد المعرفة الكاملة المستلزمة للاهتداء ، التي يشير إليها أهل الطريقة ، وحاشا أولئك أن يكونوا من أهل الكبائر ، بل هم سادة الناس وخاصتهم .  
وقوله : وهم في مشيئة الله وحكمه ، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله ، إلى آخر كلامه - فصل الله تعالى بين الشرك وغيره لأن  الشرك أكبر الكبائر   ، كما قال صلى الله عليه وسلم ، وأخبر الله تعالى أن الشرك غير مغفور ، وعلق غفران ما دونه بالمشيئة ، والجائز يعلق بالمشيئة دون الممتنع ، ولو كان الكل سواء لما كان للتفصيل معنى . ولأنه علق هذا الغفران بالمشيئة ،  وغفران الكبائر والصغائر بعد التوبة مقطوع به   ، غير معلق بالمشيئة ، كما قال تعالى :  قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم      [ الزمر : 53 ] . فوجب أن يكون الغفران المعلق بالمشيئة هو غفران الذنوب سوى الشرك بالله قبل التوبة .  
 [ ص: 529 ] وقوله : ذلك أن الله مولى أهل معرفته - فيه مؤاخذة لطيفة ، كما تقدم .  
وقوله :  اللهم يا ولي الإسلام وأهله مسكنا بالإسلام ، وفي نسخة : ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به     - روى شيخ الإسلام   أبو إسماعيل الأنصاري  في كتابه الفاروق ، بسنده عن  أنس  رضي الله عنه ، قال : كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :  يا ولي الإسلام وأهله ، مسكني بالإسلام حتى ألقاك عليه     . ومناسبة ختم الكلام المتقدم بهذا الدعاء ظاهرة . وبمثل هذا الدعاء دعا  يوسف   الصديق صلوات الله عليه ، حيث قال :  رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين      [ يوسف : 101 ] . وبه دعا السحرة الذين كانوا أول من آمن  بموسى   صلوات الله على نبينا وعليه ، حيث قالوا :  ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين      [ الأعراف : 126 ] . ومن استدل بهاتين الآيتين على جواز تمني الموت فلا دليل له فيه ، فإن الدعاء إنما هو بالموت على الإسلام ، لا بمطلق الموت ، ولا بالموت الآن ، والفرق ظاهر .  
				
						
						
