وقوله : "  والميزان      " أي : ونؤمن بالميزان . قال تعالى :      [ ص: 609 ] ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين      [ الأنبياء : 47 ] . وقال تعالى :  فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون   ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون      [ المؤمنون : 102 - 103 ] .  
قال  القرطبي     : قال العلماء : إذا انقضى الحساب كان بعده  وزن الأعمال   ، لأن الوزن للجزاء ، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة ، فإن المحاسبة لتقرير الأعمال ، والوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها . قال : وقوله تعالى :  ونضع الموازين القسط ليوم القيامة      . يحتمل أن يكون ثم موازين متعددة توزن فيها الأعمال ، ويحتمل أن يكون المراد الموزونات ، فجمع باعتبار تنوع الأعمال الموزونة ، والله أعلم .  
والذي دلت عليه السنة : أن  ميزان الأعمال له كفتان حسيتان مشاهدتان      . روى الإمام  أحمد ،  من حديث  أبي عبد الرحمن الحبلي ،  قال سمعت   عبد الله بن عمرو  يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  إن الله سيختص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة ، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا ، كل سجل مد البصر ، ثم يقول له : أتنكر من هذا شيئا أظلمتك كتبتي الحافظون ؟ قال : لا ، يا رب ، فيقول : ألك عذر أو حسنة ؟ فيبهت الرجل ، فيقول : لا يا رب ، فيقول : بلى ، إن لك عندنا حسنة واحدة ، لا ظلم اليوم عليك ، فتخرج له بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، فيقول أحضروه ، فيقول : يا رب ، وما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقال : إنك لا تظلم ، قال : فتوضع السجلات في كفة ، والبطاقة في كفة ، قال :      [ ص: 610 ] فطاشت السجلات ، وثقلت البطاقة ، ولا يثقل شيء بسم الله الرحمن الرحيم     . وهكذا روى  الترمذي ،   وابن ماجه ،   وابن أبي الدنيا ،  من حديث  الليث ،  زاد  الترمذي     : ولا يثقل مع اسم الله شيء . وفي سياق آخر :  توضع الموازين يوم القيامة ، فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة  ، الحديث .  
وفي هذا السياق فائدة جليلة ، وهي أن  العامل يوزن مع عمله   ، ويشهد له ما روى   البخاري  عن   أبي هريرة ،  عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال :  إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة ، لا يزن عند الله جناح بعوضة ، وقال : اقرءوا إن شئتم :  فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا      [ الكهف : 105 ] .  
 [ ص: 611 ] وروى الإمام  أحمد ،  عن   ابن مسعود     : أنه كان يجني سواكا من الأراك ، وكان دقيق الساقين ، فجعلت الريح تكفؤه ، فضحك القوم منه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مم تضحكون ؟ قالوا : يا نبي الله ، من دقة ساقيه ، فقال : والذي نفسي بيده ، لهما أثقل في الميزان من  أحد      .  
وقد وردت الأحاديث أيضا بوزن الأعمال أنفسها ، كما في صحيح  مسلم ،  عن  أبي مالك الأشعري ،  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان  الحديث .  
وفي الصحيحين ، وهو خاتمة كتاب   البخاري ،  قوله صلى الله عليه وسلم :  كلمتان خفيفتان على اللسان ، حبيبتان إلى الرحمن ، ثقيلتان في      [ ص: 612 ] الميزان : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم     .  
وروى   الحافظ أبو بكر البيهقي ،  عن   أنس بن مالك  رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال :  يؤتى بابن آدم يوم القيامة ، فيوقف بين كفتي الميزان ، ويوكل به ملك ، فإن ثقل ميزانه ، نادى الملك بصوت يسمع الخلائق : سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا ، وإن خف ميزانه ، نادى الملك بصوت يسمع الخلائق : شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا     .  
فلا يلتفت إلى ملحد معاند يقول : الأعمال أعراض لا تقبل الوزن ، وإنما يقبل الوزن الأجسام ! ! فإن الله يقلب الأعراض أجساما ، كما تقدم ، وكما روى الإمام  أحمد ،  عن   أبي هريرة  رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :  يؤتى بالموت كبشا أغر ، فيوقف بين الجنة والنار ، فيقال ، يا أهل الجنة ، فيشرئبون وينظرون ، ويقال : يا أهل النار ، فيشرئبون وينظرون ، ويرون أن قد جاء الفرج ، فيذبح ، ويقال : خلود      [ ص: 613 ] لا موت     . ورواه   البخاري  بمعناه . فثبت  وزن الأعمال والعامل وصحائف الأعمال   ، وثبت أن  الميزان له كفتان      . والله تعالى أعلم بما وراء ذلك من الكيفيات .  
فعلينا الإيمان بالغيب ، كما أخبرنا الصادق صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان .  
ويا خيبة من ينفي وضع الموازين القسط ليوم القيامة كما أخبر الشارع ، لخفاء الحكمة عليه ، ويقدح في النصوص بقوله : لا يحتاج إلى الميزان إلا البقال والفوال ! ! وما أحراه بأن يكون من الذين لا يقيم الله لهم يوم القيامة وزنا . ولو لم يكن من الحكمة في وزن الأعمال إلا ظهور عدله سبحانه لجميع عباده ، فلا أحد أحب إليه العذر من الله ، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين . فكيف ووراء ذلك من الحكم ما لا اطلاع لنا عليه . فتأمل قول الملائكة ، لما قال الله لهم :  إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون    [ ص: 614 ]    [ البقرة : 30 ] . وقال تعالى :  وما أوتيتم من العلم إلا قليلا      [ الإسراء : 85 ] .  
وقد تقدم عند ذكر الحوض كلام  القرطبي  رحمه الله ، أن  الحوض قبل الميزان   ،  والصراط بعد الميزان      . ففي الصحيحين :  أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار ، فيقتص لبعضهم من بعض ، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة     . وجعل  القرطبي  في التذكرة هذه القنطرة صراطا ثانيا للمؤمنين خاصة ، وليس يسقط منه أحد في النار ، والله تعالى أعلم .
				
						
						
