وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور
وقوله: وجعلنا بينهم عطف على قوله: لقد كان لسبإ يعني: وكان من قصتهم أنا جعلنا بينهم، وبين القرى التي باركنا فيها بالماء والشجر، وهي قرى الشام ، قرى ظاهرة متواصلة، وكان متجرهم من أرض اليمن إلى الشام ، وكانوا يبيتون بقرية ويقيلون بأخرى حتى يرجعوا، وكانوا لا يحتاجون إلى زاد من وادي سبإ إلى الشام ، ومعنى قوله:
[ ص: 492 ] ظاهرة أن الثانية كانت ترى من الأولى لقربها منها، وقوله: وقدرنا فيها السير جعلنا السير من القرية إلى القرية مقدارا واحدا نصف يوم، قلنا لهم: سيروا فيها في تلك القرى، ليالي وأياما ليلا شئتم السير أم نهارا، آمنين من الجوع والعطش والسباع والتعب، ومن كل خوف، ثم إنهم بطروا النعمة وسألوا أن تكون القرى والمنازل بعضها أبعد من بعض فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا أي: اجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز ليركب إليها الرواحل وتتزود الأزواد، وقرئ بعد وهو بمعنى باعد، وهو مثل ضعف وضاعف، وقرب وقارب.
وظلموا أنفسهم بالكفر، فجعلناهم أحاديث لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم وشأنهم كيف فعلنا بهم، ومزقناهم كل ممزق فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق، وذلك أن الله تعالى لما غرق مكانهم وأذهب جنتيهم تبددوا في البلاد، فصارت العرب تتمثل بهم في الفرقة، فتقول: تفرقوا أيدي سبإ وأيادي سبإ.
أخبرنا ، أنا أبو حسان المزكي هارون بن محمد الإستراباذي ، أنا ، أنا إسحاق بن أحمد الخزاعي أبو الوليد الأزرقي ، نا جدي ، نا ، عن سعيد بن سالم القداح ، عن عثمان بن ساج ، عن الكلبي أبي صالح ، قال: ألقت طريفة الكاهنة إلى الذي يقال له مزيقيا بن ماء السماء، وهو عمرو بن عامر عمرو بن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، وكانت قد رأت في كهانتها أن سد مأرب سيخرب، وأنه سيأتي سيل العرم فيخرب الجنتين، فباع أمواله وسار هو وقومه إلى عمرو بن عامر مكة ، فأقاموا بمكة وما حولها، فأصابتهم الحمى، فدعوا طريفة فشكوا إليها الذي أصابهم، فقالت لهم: قد أصابني الذي تشكون وهو مفرق بيننا.
قالوا: فماذا تأمرين؟ قال: من كان منكم ذا هم بعيد، وجمل شديد، ومزاد جديد فليلحق بقصر عمان المشيد، فكانت أزد عمان ، ثم قالت: من كان ذا جلد وصبر على أزمات الدهر فعليه بالأراك من بطن مر، وكانت خزاعة ، ثم قالت: من كان منكم يريد الراسيات في الوحل، المطعمات في المحل فليلحق بيثرب ذات النخل، وكانت الأوس والخزرج ، ثم قالت: من كان منكم يريد الخمر والخمير، والملك والتأمير، ولبس الديباج والحرير فليلحق ببصرى وغوير ، وهما من أرض الشام فكان الذين سكنوها آل جفنة من غسان، ثم قالت: من كان منكم يريد النبات الرقاق، والخيل العتاق، وكنوز الأرزاق، والدم المهراق فليلحق بأرض العراق ، فكان الذين سكنوها آل جذيمة الأبرش ، ومن كان بالحيرة وآل محرق .
وقوله: إن في ذلك يعني فيما فعل سبأ، [ ص: 493 ] لآيات لعبرا ودلالات، لكل صبار عن معاصي الله، شكور لأنعمه، قال : يعني المؤمنين من هذه الأمة، صبور على البلاء، شكور لله في نعمه. مقاتل