الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون  ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين  وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين  وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده [ ص: 274 ] وأصلح فأنه غفور رحيم  وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وأنذر به: قال ابن عباس: خوف بالقرآن الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم يريد: المؤمنين يخافون يوم القيامة وما فيها من الأهوال علما بأنه سيكون، ليس لهم من دونه أي: غير الله ولي ولا شفيع لأن شفاعة الرسل والملائكة للمؤمنين إنما تكون بإذن الله تعالى، لعلهم يتقون كي يخافوا فينتهوا عما نهيتهم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: ولا تطرد الذين يدعون ربهم الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا سعيد بن محمد المقرئ، أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد بن عمر، أخبرنا أبو عمرو أحمد بن محمد الحيري، حدثنا أحمد بن يوسف، حدثنا أحمد بن المفضل، حدثنا أسباط، عن السدي، عن أبي سعيد الأزدي، عن أبي الكنود، عن خباب بن الأرت، قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجدا النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا مع بلال وعمار وصهيب وخباب في ناس من فقراء المؤمنين، فلما رأوهم حوله حقروهم فأتوه فخلوا به، فقالوا: أنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحيي أن ترانا العرب قعودا مع هؤلاء الأعبد، فإذا نحن [ ص: 275 ] جئناك فأقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت، قال: نعم، فأنزل الله تعالى هذه الآية وما بعدها ومعنى قوله: يدعون ربهم بالغداة والعشي يعبدون الله تعالى بالصلوات المكتوبة، في قول عامة المفسرين، وقال قتادة: يعني: صلاة الصبح وصلاة العصر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: يريدون وجهه: قال ابن عباس: يطلبون ثواب الله، ويعملون ابتغاء مرضاة الله.

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى: يريدون الله بطاعتهم، ويذكر لفظ الوجه للتعظيم، كما تقول: هذا وجه الرأي.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج: أي: لا يقصدون بعبادتهم إلا إياه.

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أبو عبد الرحمن بن أبي حامد العدل، حدثنا أبو علي بن أحمد الفقيه، أخبرنا أبو يعلى محمد بن زهير الأيلي، حدثنا عمر بن يحيى بن نافع، حدثنا الحارث بن غسان، حدثنا أبو عمران الجوني، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تعرض أعمال بني آدم في صحف مختمة، فيقول الله تعالى: اقبلوا هذا ودعوا هذا، فتقول الملائكة: ما علمنا إلا خيرا، فيقول الله: هذا ما أريد به وجهي، وهذا ما لم يرد به وجهي، ولا أقبل إلا ما أريد به وجهي"   .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 276 ] قوله: ما عليك من حسابهم من شيء أي: من حساب رزقهم من شيء فتملهم وتطردهم، وما من حسابك عليهم من شيء أي: ليس رزقك عليهم ولا رزقهم عليك، وإنما يرزقك وإياهم الله، فدعهم يدنوا منك، ولا تطردهم فتكون من الظالمين .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الأنباري: عظم الأمر في هذا على النبي صلى الله عليه وسلم، وخوف بالدخول في جملة الظالمين; لأنه كان قد هم بتقديم الرؤساء وأولي الأموال على الضعفاء وذوي المسكنة، فأعلمه الله أن ذلك غير جائز.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وكذلك فتنا بعضهم ببعض أي: كما ابتلينا قبلك الغني بالفقير، ابتلينا أيضا هؤلاء بعضهم ببعض، كما قال: وجعلنا بعضكم لبعض فتنة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الكلبي: ابتلى هؤلاء الرؤساء من قريش بالموالي، فإذا نظر الشريف إلى الوضيع قد آمن قبله أنف أن يسلم ويقول: سبقني هذا بالإسلام فلا يسلم، وهو قوله: ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا يريدون الفقراء والضعفاء.

                                                                                                                                                                                                                                      والاستفهام هاهنا معناه الإنكار، كأنهم أنكروا أن يكونوا سبقوهم بفضيلة أو خصوا بمنة، فقال الله تعالى أليس الله بأعلم بالشاكرين أي: بالذين يشكرون نعمته إذا من عليهم بالهداية، أي: إنما يهدي الله إلى دينه من يعلم أنه يشكر نعمته.

                                                                                                                                                                                                                                      والاستفهام في قوله: أليس الله: معناه التقرير، أي: أنه كذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الحسن، وعكرمة: نزلت في الذين سأل المشركون طردهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآهم بدأهم بالسلام، ويقول: "الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام"   .


                                                                                                                                                                                                                                      وهو قوله: فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة قال ابن عباس: قضى لكم ربكم على نفسه الرحمة.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 277 ] وقال الزجاج: معنى كتب: أوجب ذلك إيجابا مؤكدا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: أنه من عمل منكم سوءا بجهالة يعني: أنه بجهله آثر العاجل القليل على الآجل الكثير، كقوله: للذين يعملون السوء بجهالة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: ثم تاب من بعده أي: رجع عن ذنبه ولم يصر على ما فعل، وأصلح: عمله، فأنه غفور رحيم ، واختلفوا في قوله: أنه وفأنه: فمن فتحهما جعل الأولى تفسيرا للرحمة، كأنه قيل: كتب ربكم على نفسه الرحمة: أنه من عمل منكم، ثم جعل الثانية بدلا من الأولى كقوله: أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن كسرها، كسر الأولى على الحكاية، كأنه لما قال: كتب ربكم على نفسه الرحمة قال: إنه من عمل منكم سوءا بجهالة، وكسر الثانية لأنها دخلت على ابتداء وخبر وهي مستأنفة.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما نافع فإنه أبدل الأولى من الرحمة ففتحها، واستأنف ما بعد الفاء.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وكذلك نفصل الآيات يقول: وكما فصلنا ذلك في هذه السورة دلائلنا وأعلامنا على المشركين، كذلك نميز ونبين لك حجتنا في كل حق ينكره أهل الباطل.

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى التفصيل: التمييز للبيان.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: ولتستبين عطف على المعنى، كأنه قيل: ليظهر الحق وليستبين.

                                                                                                                                                                                                                                      والسبيل يذكر ويؤنث، فلذلك قرئ ولتستبين بالتاء والياء، هذا فيمن رفع السبيل، ومن نصب السبيل كانت التاء للخطاب، أي ولتستبين: يا محمد سبيل المجرمين، يقال: استبان الشيء واستبنته.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 278 ] قال ابن عباس: ولتستبين يا محمد سبيل المجرمين فيما جعلوا لله من الشركاء، وما بينت من سبيلهم يوم القيامة ومصيرهم إلى الخزي.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية