الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              معلومات الكتاب

              تهذيب الآثار للطبري

              الطبري - محمد بن جرير الطبري

              صفحة جزء
              فهذا خلاف الخبر الذي ذكرت عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لن تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرة على من ناوأها حتى تقوم الساعة  ، لأن من كان على الحق فهو لله موحد ولأمره متبع" وعما نهاه عنه منزجر ، وهو من خيار الناس ، لا من شرارهم.

              ومن المحال أن يقول صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس" ولا تقوم على أحد ، يقول: الله ، الله ، ثم يقول: تقوم على طائفة من أمتي على الحق ظاهرة على من عاداها لا في موطن ولا في مواطن مختلفة ، لأن لذلك خبر ، والخبر لا ينسخ ، فيجوز أن يكون أحدهما ناسخا صاحبه إذا اختلفت الأوقات والأحوال؟ وإن قلت: كل ذلك باطل لا يصح شيء منه دخلت فيما أنت عائبه من قول مبطلي أخبار الآحاد العدول ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس ذلك من مذهبك.

              فإن أنت قلت بتصحيح جميع ذلك ، قلنا لك: وما وجه صحته وبعضه يبطل معنى بعض ، وبعضه يحيل صحة بعض ، لتدافع معانيه وتناقض مخارجه؟ قيل له ، وبالله التوفيق: قولنا في ذلك كله بتصحيح جميعه على ما يصح من معانيه ، وأنه لا خبر من ذلك يدفع صحة غيره من الأخبار ، بل يحقق بعضه معنى بعض، ويدل بعضه على صحة بعض، ولكن بعضه خرج على العموم والمراد منه الخصوص.

              فأما الذي خرج من ذلك مخرج العموم والمراد منه الخصوص ، فقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس" ، وقوله: "لا تقوم الساعة إلا على حثالة من الناس" ، وقوله: " لا تقوم الساعة على أحد ، يقول: الله ، الله " ، وقوله: "لا تقوم الساعة حتى لا يعبد الله في الأرض قبل ذلك بمئة سنة" ، فإن معنى كل ذلك الخصوص ، والمراد منه: لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس بموضع كذا دون موضع كذا ، وإلا على حثالة من الناس في كل موضع خلا موضع كذا ، فإن به [ ص: 834 ] طائفة من أمتي على الحق ظاهرة على من ناوأهم ، ولا تقوم الساعة حتى لا يعبد الله في الأرض قبل ذلك بمئة سنة ، إلا في مكان كذا ، ولا تقوم الساعة على أحد ، يقول: الله ، الله إلا بمكان كذا ، فإن فيه طائفة من أمتي على الحق.

              فإن قال: فما البرهان على أن ذلك معناه؟ قيل له: ما قد بينا قبل من أنه غير جائز أن يكون في الخبر ناسخ ومنسوخ ، وأن الناسخ والمنسوخ إنما يكون في الأمر والنهي ، وفي الحظر والإطلاق  ، وإنه غير جائز على النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: " يكون في زمان كذا كيت وكيت ، ثم يقول بعد: "لا يكون الذي قلت إنه يكون في زمان كذا" .

              وإذ كان ذلك غير جائز على النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان قد ورد عنه القولان اللذان ذكرنا قبل: من "أن من أمته طائفة على الحق ظاهرة على من ناوأها حتى تقوم الساعة" ، و "أن الساعة لا تقوم إلا على شرار الناس" ، بالأسانيد الصحاح ، وكان غير جائز أن توصف الطائفة التي هي على الحق بأنها شرار الناس ، وأنها لا تعبد الله ولا توحده ، علم أن الموصوفين بأنهم شرار الناس الذين تقوم عليهم الساعة غير الموصوفين بأنهم على الحق مقيمون عند قيام الساعة ، إذ كانت صفاتهم مختلفة اختلافا لا يشكل.  

              وإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الطائفة التي وصفها صلى الله عليه وسلم بأنها على الحق مقيمة عند قيام الساعة غير داخلة في الشرار الذي أخبر صلى الله عليه وسلم أن الساعة لا تقوم إلا عليهم.

              وقد بين ذلك أبو أمامة في خبره عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه قبل أنه قال: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لعدوهم قاهرين ، لا يضرهم من خالفهم ، إلا ما أصابهم من لأواء ، وهم كالإناء بين الأكلة حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك.

              قالوا: يا رسول الله ، وأين هم؟ قال: "ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس"
              ، فبين صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر خصوصية سائر الأخبار التي وصفنا أنها خرجت مخرج العموم ، بوصفه الطائفة التي أخبر عنها أنها على الحق.

              [ ص: 835 ] مقيمة إلى قيام الساعة ، أنها ببيت المقدس وأكنافه ، دون سائر البقاع غيرها على ما بينا قبل.

              فقد اتضح إذا ما وصفنا وجه صحة الخبرين ، وأن ليس أحدهما دافعا صاحبه .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية