" فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الخبر الذي ذكرناه عن عنه: علي بن أبي طالب يعني صلى الله عليه وسلم بالمنار: المعالم، وهو مفعل، من قول القائل: قد نار لي هذا الأمر، إذا استبان واتضح، فهو ينور لي منارا، انقلبت الواو التي هي عين الفعل ألفا، إذ نقلت حركتها وهي فتحة إلى الحرف الذي قبلها، كما فعل ذلك بقولهم: جلت مجالا، ودرت مدارا، وجزت مجازا، ومن ذلك قول جرير بن عطية: "لعن الله من غير منار الأرض"
خل الطريق لمن يبني المنار به وابرز ببرزة حيث اضطرك القدر
فإن قال قائل: وما معنى هذا الخبر؟ أو مستحق اللعن من غير علما من أعلام الأرض؟ قيل: قد اختلف من قبلنا في معنى ذلك، نذكر ما قالوا فيه، ثم نتبعه البيان عن الصواب لدينا فيه "[ ص: 206 ] فقال بعضهم: عنى بذلك صلى الله عليه وسلم: من غير حدود حرم الله التي حدها إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه.
وقال آخرون: بل عنى به من غير معالم الأرض التي هي مجاورة أرضه ليسرق منها ، ويتحيف من حدودها، كي لا يوقف على الحد الذي هو بين أرضه وأرض غيره عند دخوله في أرض غيره، وأخذه منها ظلما ما ليس له.
وهذا القول عندنا أولى بالصواب من القول الأول، وذلك لدلالة الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن اقتطع شبرا من الأرض، ولو كان معنى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك منار حرم مكة، لم يكن صلى الله عليه وسلم ليدع بيان ذلك لأمته، إما بنص، أو بدلالة، ولا شيء في الخبر يدل على أنه عنى بذلك معالم حرم إبراهيم، بل ذلك منه عام، فهو على عمومه في كل أرض غير منارها مغير ظلما، أدخل بتغييره ذلك ضرا على مسلم أو معاهد، إما بدخوله في حق غيره، واستراقه من أرض غيره ما ليس له، وإما بتلبيسه عليه، بتغييره ذلك عليه الحق الذي هو له.
وأما التخوم الذي روى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ابن عباس "لعن الله من غير تخوم الأرض" ، فإن أهل العلم بالعربية يقولون: هي واحدة، ويفتحون التاء منها، وينشدون في ذلك قول الشاعر:
يا بني، التخوم لا تظلموها إن ظلم التخوم ذو عقال
وأما المحدثون فإنهم يروون ذلك بضم التاء.
ومن روى ذلك كذلك، فينبغي أن يكون قصد بها إلى أنها جمع، واحدتها تخم، وقد زعم بعضهم أن ذلك لغة لأهل الشام.
[ ص: 207 ]