فإن قال لنا قائل: أفترى أن ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم أمر لازم، وفرض على الحكام واجب أن يقضوا به بينهم، لا يجوز لهم خلافه، أم ذلك أمر على وجه الندب والإرشاد، والناس في العمل به مخيرون. [ ص: 786 ] قيل: ذلك عندنا على الإيجاب من النبي صلى الله عليه وسلم، فيما عناه من الطريق، على الحكام القضاء به إذا احتكم إليهم فيه المحتكمون، وعلى الناس إذا أرادوا أن يبنوا فتنازعوا في قدر ما يرفعون بينهم من عرض الطريق العمل به. فإن قال: وما الذي عنى به من الطرق، وكان الحكم الذي ذكرت به فيه واجبا على ما وصفت دون غيره؟ قيل: ذلك الطريق الذي اختلف في رفعه بينهم محيو أرض من موتان الأرض، أو مقتسمو أرض هي بينهم شركة، لا مضرة عليهم في رفع الطريق الذي مبلغ ذرعه سبع أذرع، ولا على أحد منهم، فدعا بعضهم شركاءه إلى رفع طريق سعته قدر ذلك، وامتنع بعضهم من رفع قدر ذلك، مع اجتماع جميعهم على رفع طريق بينهم لمساكنهم أو أراضيهم، أو دعا بعضهم إلى رفع أكثر من سبع أذرع، وامتنع بعضهم إلا من سبع أذرع، أو أقل من ذلك، وفي رفع العرض الذي مبلغ ذرعه عرضا سبع أذرع لجميعهم، ولا مضرة على أحد منهم، ولا حيف، فإن الواجب على الحاكم إذا احتكموا إليه في ذلك، أن يقضي بما قلنا بينهم، وعلى البانين إذا تنازعوا في الذي يجعلون ذلك بينهم، أن يعملوا به. فإن قال: وما الدليل أن ذلك من الطريق، هو المعني بقول النبي صلى الله عليه وسلم: . "إذا اختلفتم في الطرق، فاجعلوها سبع أذرع"
قيل: الدليل قيام الحجة على أن دارا أو أرضا شركة بين قوم أرادوا اقتسامها بينهم، وكان منهم القليل النصيب منها، الذي إذا أخذ من نصيبه للطريق الذي يكون سبع أذرع بقدر نصيبه، لم يبق له من نصيبه ما ينتفع به، وإذا أخذ منه لطريق ذرعه أقل من سبع أذرع، انتفع بما يبقى من نصيبه بقدر ما يرفع منه للطريق الذي يكون ذرعه أقل من سبع أذرع، وكان له بذلك مسكن ومدخل [ ص: 786 ] ومخرج، أنه لا يكلف حكما في نصيبه من رفع الطريق له مع سائر مقاسميه ما يبطل حقه أو أكثره، وما يضمن به رفعه منه للطريق الذي عرضه سبع أذرع. وكان معلوما بذلك أن ذلك إنما عني به ما لا مضرة على بعضهم في رفعه بين المختلفين فيه من الطريق على أحد منهم.
فأما ما كان في قدر رفع ذلك مضرة على بعضهم أو على جميعهم، فإنه غير داخل في معنى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بما أمر به من ذلك.
وإذا كان الأمر في ذلك كالذي وصفنا، فمعلوم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ، وإن كان مخرجه عاما، أنه مراد به خاص من الطريق دون جميعا، وذلك هو ما قلناه، إن شاء الله "إذا اختلفتم في الطرق، فاجعلوها سبع أذرع"
فإن قال لنا: فهذا البيان عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ، فقد فهمناه وأنه معني به بعض الطرق دون جميعها، وأن مخرج ذلك، وإن كان على العموم، فإنه مراد به الخصوص، وإن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فيما عناه، وأمر به على الإيجاب لا على الندب والإرشاد، فما قولك في قوله: "إذا اختلفتم في الطريق، فاجعلوها سبع أذرع" "وإذا بنى أحدكم بناء، فليدعمه على حائط جاره" ، وفي قوله: على الإيجاب ذلك أم على الندب والإرشاد؟ . فإن قلت: ذلك على الإيجاب والإلزام، فمن المأمور به: الباني أو جاره؟ فإن قلت: الباني فارقت ما عليه الأمة، إذ كان لا أحد من سلف الأمة ولا من خلفها يزعم أن على من بنى بناء أن يدعم بناءه على حائط جاره، [ ص: 787 ] كانت به إلى ذلك حاجة أم لم تكن به إليه حاجة فرضا، وأنه إن لم يفعل ذلك، كان بتركه فعل ذلك، لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالفا، وبربه آثما. وإن قلت: ذلك على الندب والإرشاد. "لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبة على جداره" ،
قيل لك: وما برهانك على ذلك وأنت ممن يقول: إن الأمر والنهي إذا ورد من الله - عز ذكره - أو من رسوله صلى الله عليه وسلم، أن عليك أن تدين بوجوب العمل به، غير سائغ لك ترك العمل به إذا لم يكن مقرونا بالبيان أنه على الندب والإرشاد لما في عقل أو خبر، وهذا خبران وارد أحدهما بالأمر والآخر بالنهي.
قيل له: أما أحدهما فإنه خارج معناه من كلا الوجهين اللذين وصفت، وأما الآخر منهما فإنه خارج معناه مخرج النهي، بمعنى الأمر بخلافه الذي هو على وجه الندب والإرشاد، وأما الذي هو خارج من كلا وجهي الأمر الذي هو إيجاب وإلزام أو ندب وإرشاد، فالخبر المروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: فإنه أمر خارج من كلا الوجهين اللذين ذكرت، ولكنه أمر إذن وإطلاق مضمن بشرط، كقول الله - جل ثناؤه -: "من بنى بناء، فليدعمه على حائط جاره" ، فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ، وكقوله: فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ، وما أشبه ذلك من الكلام الذي ظاهره أمر، ومعناه الإباحة والإطلاق، غير أن قوله: وإن كان بمعنى الإباحة والإطلاق فإنه مضمن [ ص: 789 ] بشرط وهو: إن أذن في الدعم عليه رب الحائط، لا على أن ذلك للباني، رضي رب الحائط دعمه على حائطه أو سخطه وأما الذي هو خارج مخرج النهي، ومعناه الأمر بخلافه الذي هو على وجه الندب والإرشاد، فقوله صلى الله عليه وسلم: "فليدعمه على حائط جاره" ، فإن ذلك، وإن كان في الظاهر نهيا من النبي صلى الله عليه وسلم رب الحائط عن منع الجار من وضع خشبة على جداره، فإن معناه: ليأذن أحدكم لجاره إذا أراد أن يجعله عليه. "لا يمنع أحدكم جاره أن يجعل خشبة على جداره" ،