الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              معلومات الكتاب

              تهذيب الآثار للطبري

              الطبري - محمد بن جرير الطبري

              صفحة جزء
              ( القول في البيان عما في هذه الأخبار من الغريب )

              فمن ذلك : قول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - إذ علم أمته الصلاة عليه - : " قولوا : اللهم صل على محمد " وقد بينا معنى قوله : " اللهم " فيما مضى من كتابنا هذا ، وذكرنا اختلاف المختلفين من أهل العربية فيه ، وبينا الصواب - لدينا - من القول فيه .

              وأما الصلاة : فإنها في كلام العرب : الدعاء .  

              يقال : صلى فلان على فلان : إذا دعا له بخير .

              ومن ذلك قول أعشى بن ثعلبة في صفة خمر : [ ص: 261 ]

              لها حارس لا يبرح الدهر بيتها وإن ذبحت صلى عليها وزمزما)

              يعني بقوله : صلى عليها : دعا لها .

              ومنه قول الله - تعالى ذكره - لنبيه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم .

              يعني بقوله : وصل عليهم : ادع لهم بخير .

              فإن قال قائل : فإن كانت الصلاة دعاء كما قلت ; فقد وجب أن يكون قولنا : اللهم صل على محمد مسألة منا ربنا ، أن يدعو لمحمد - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وذلك من المحال ; لأن الله - جل ذكره - هو المرغوب إليه ، والمدعو غير الراغب إلى أحد قيل : إن ذلك بخلاف ما توهمت وإنما معنى ذلك : من دعاء الداعي ربه مسألته إياه أن يرحم محمدا - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ويبارك عليه .

              وذلك أن صلاة الله على عبده : رحمته إياه .

              وصلاة العباد بعضهم لبعض : دعاء بعضهم لبعض .

              فالعباد يرغبون إلى الله - جل ثناؤه - بقولهم : " اللهم صل على محمد " .

              في أن يرحمه ، ويبارك عليه .

              والله - تعالى ذكره - يصلي عليه برحمته إياه ، وبركته عليه .

              وأما معنى قوله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - " وآل محمد " : فإن أصل " آل " في كلام العرب : " أهل " أبدلت الهاء همزة ، كما قالوا : ماء .

              فأبدلوا الهاء همزة.

              يدل على أن ذلك كذلك : قولهم في التصغير : " مويه " فيردون الهاء التي كانوا جعلوها همزة فيه .

              وكذلك يفعلون في الآل إذا صغروه ، قالوا : " أهيل " .

              فيردون الهاء التي كانوا جعلوها همزة فيه .

              وقد حكي سماعا من العرب في تصغير آل : أويل .

              وأكثر [ ص: 262 ] ما يستعمل العرب " آل " مع الأسماء المعروفة المشهورة .

              كقولهم : آل محمد - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - .

              وآل عباس ، وآل عقيل .

              وقل ما يستعملونه مع المجهول من الأسماء ، لا يكادون يقولون : رأيت آل الرجل ، وآل المرأة .

              وقد يقال للرجل الذي يطلب النساء ، ويريدهن ، ويهواهن : هو من آل النساء .

              ومن ذلك قول الشاعر :

              فإنك من آل النساء وإنما     يكن لأدنى لا وصال لغائب)

              وقد قال الله - تعالى ذكره - : كدأب آل فرعون ; يعنى بآل فرعون : قومه الذين كانوا على دينه ، وفي طاعته .

              وأما قول علي - رحمة الله عليه - : " اللهم داحي المدحوات " .

              فإنه يعني بقوله : " داحي المدحوات " : باسط المبسوطات .

              ويعني بباسط المبسوطات : الأرضين السبع .

              وذهب في ذلك إلى قول الله - تعالى ذكره - : والأرض بعد ذلك دحاها .

              يقال منه : دحوت الثوب ، إذا بسطته ومددته ، أدحوه دحوا ودحا الصبي الجوزة : إذا دحرجها .

              ومنه قيل لمداح الصبيان : مداح .

              وفيها لغة أخرى ، وهي : دحيته أدحاه دحيا .

              ومن ذلك قول أمية بن أبي الصلت :

              دار دحاها ثم أعمرنا بها     وأقام بالدار التي هي أمجد)

              وأما قوله : " وبارئ المسموكات " .

              فإنه يعني بالبارئ : الخالق : يقال منه : برأ الله الخلق ، فهو يبرؤهم برءا .

              ومنه قول الله - تعالى ذكره - ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها يعني من قبل أن نخلقها .

              [ ص: 263 ] وأما المسموكات : فإنها المرفوعات بناء .

              يقال منه : سمك فلان بناءه .

              فهو يسمكه سمكا .

              ومنه قول الله - تعالى ذكره - : رفع سمكها .

              ومنه قول الفرزدق بن غالب :

              إن الذي سمك السماء بنى لنا     بيتا دعائمه أعز وأطول)

              وأما قوله : " وجبار القلوب على فطرتها " .

              فإنه يعني بقوله : وجبار القلوب على فطرتها : مهيئها ومنشئها .

              ويعني بقوله : على فطرتها : على ما هيأها عليه ، وأنشأها من شقاء وسعادة .

              والفطرة : الخلقة .

              من قول الله - تعالى ذكره - : الحمد لله فاطر السماوات والأرض بمعنى خالقها .

              وأما قوله : " ورأفة تحننك " ; فإن الرأفة : رقة الرحمة .

              يقال منه : قد رأف فلان بفلان ، فهو يرأف به رأفة .

              ومنه قول الله - تعالى ذكره - ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله .

              ويقال لمن وصف بذلك : هو رجل رؤوف ، ورؤف .

              ومن الرؤف قول الوليد بن عقبة :

              وشر الطالبين فلا تكنه     تقاتل عمه الرؤف الرحيم)

              وأما التحنن : فإنه التفعل من الحنان ، وهو الرحمة .

              ومنه قول الله - تعالى ذكره - : وحنانا من لدنا وزكاة بمعنى : ورحمة .

              ومنه قول طرفة بن العبد :

              أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا     حنانيك بعض الشر أهون من بعض

              وأما قوله : " والدامغ جيشات الأباطيل " .

              فإن الجيشات : جمع جيشة .

              والجيشة : الفعلة .

              من قول القائل : جاشت الفتية : إذا هاجت [ ص: 264 ] واشتدت .

              وجاشت القدر : إذا هي فارت غليا ، فهي تجيش جيشا ، وجيشة .

              والجيشة : المرة الواحدة .

              مثل الغلية .

              ومنه قول الشاعر :

              تجيش علينا قدرهم فنديمها     ونفثؤها عنا إذا حميها غلا

              وأما قوله : " كما حمل فاضطلع " .

              فإنه يعني بقوله : " فاضطلع " : فأطاق حمله ، واستقل به ، وقوي عليه .

              يقال منه : إن فلانا مضطلع بهذا الأمر : إذا كان قويا عليه .

              ومنه قول الأعشى في مدح هوذة بن علي الحنفي :

              قد حملوه حديث السن ما حملت     ساداتهم فأطاق الحمل واضطلعا

              يعني بقوله : اضطلع : احتمل ، وقوي عليه .

              وأما قوله : " حتى أورى قبسا لقابس " .

              فإنه يعني بقوله : أورى : أظهر ، وأوضح ، وأنار ، وأضاء .

              من قولهم : أورى فلان من زنده النار : إذا أظهرها ، فهو يوريها إيراء .

              ومنه قول أعشى بني ثعلبة :

              ولو رمت في ظلمة قادحا     حصاة بنبع لأوريت نارا

              يعني بقوله : لأوريت : لأظهرت .

              وأما القبس : فإنه الشعلة من النار .

              وأما القابس : فإنه المستشعل .

              ومنه قول الله - تعالى ذكره - مخبرا عن قول موسى صلوات الله عليه لأهله : لعلي آتيكم منها بقبس .

              وإنما جعل علي - رضوان الله عليه - الحق الذي جاء به نبينا محمد - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - من الإسلام وشرائعه ، والقرآن وحكمه مثلا للقبس يقتبسه المقتبس .

              فجعل ذلك في نوره ، وبرهانه ، وضيائه لمن [ ص: 265 ] استنار به ، واستضاء بضوئه ، مثل القبس من النار لقابسه .

              ومن القبس والقابس أيضا ، قول الكميت بن زيد الأسدي :

              لما أجابت صفيرا كان آيتها     من قابس شيط الوجعاء بالنار)

              وأما قوله : " آلاء الله تصل بأهله أسبابه " : فإن الآلاء هي النعماء .

              ومنه قول الله - تعالى ذكره - : فبأي آلاء ربكما تكذبان .

              بمعنى : فبأي نعماء ربكما تكذبان .

              وأما قوله : " من فوز ثوابك المعلول " : فإنه يعني بالمعلول : المضاعف .

              وأصله : من العلل في الشرب : وهو الشرب الثاني .

              يقال منه : شرب فلان علا بعد نهل .

              فالنهل : الشرب الأول ، والعلل : الشرب الثاني .

              ثم يستعمل العلل في كل شيء تكرر مرة بعد مرة ، فيقال للثوب إذا صبغ صبغا بعد صبغ ، وأعيد عليه الصبغ مرة بعد مرة : عل بالصبغ .

              ومنه قول أبي داود الإيادي في صفة لون فرس :

              خيفانة تهدي الخبار كأنها     غب الوجيف تعل بالإجساد)

              يعني بقوله : تعل بالأجساد : يعاد عليه الصبغ بالإجساد .

              وهي جمع جساد .

              والجساد : الزعفران ، ودم الأخوين! وأما قوله : " وجزل عطائك المحلول " : فإنه يعني بالمحلول : المبذول .

              وهو مفعول من قولهم : حللت العقد .

              وأما قوله : " عل على بناء البنائين بناءه " : فإنه يعني بقوله ; عل : ارفع .

              [ ص: 266 ] من قول القائل : على فلان بناءه : إذا رفعه ، فهو يعليه تعلية .

              وأما قوله : " وأكرم مثواه " : فإن المثوى : المنزل .

              وهو المفعل من قولهم : ثوى فلان بموضع كذا : إذا أقام به .

              ومنه قول سحيم عبد بني الحسحاس :

              فإن تثو لا تملل وإن تصح غاديا     تزود وترجع عن عميرة راضيا)

              يعني بقوله : تثو : تقيم .

              ومنه قول الله - تعالى ذكره لنثوينهم من الجنة غرفا : يعني بقوله : لنثوينهم : لننزلنهم ، ولنجعلن لهم موضع مقام .

              وأما قول الأعرابي للنبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : " ولا أدري ما دندنتك ولا دندنة معاذ " ، وقول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - للأعرابي : " حولها أدندن أنا ومعاذ " :  فإن الدندنة : هو الكلام الخفي الذي يسمع من المتكلم به صوته ، ولا يفهم معناه ، مثل الهينمة .

              وأما قول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في التشهد : " قولوا : التحيات لله " .

              فإن التحيات : جمع تحية .

              والتحية في كلام العرب : الملك .

              ومنه قول زهير بن جناب الكلبي :

              أبني إني فاعلموا     أورثتكم مجدا بنيه
              وتركتكم سادات أقوام     زنادكم وريه)
              من كل ما نال الفتى     قد نلته إلا التحية

              [ ص: 267 ] يعني بالتحية : الملك .

              ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي :

              أسير إلى أبي قابوس حتى     أنيخ على تحيته بجندي

              يعني بقوله : على تحيته : على ملكه .

              وقد روي عن أنس بن مالك أنه سئل عن ذلك ، فقال : معناه الحياة الدائمة لله! والذي ذكرت أن العرب تقوله في معنى التحية ، هو المعروف عند أهل العلم بكلام العرب .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية