الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              معلومات الكتاب

              تهذيب الآثار للطبري

              الطبري - محمد بن جرير الطبري

              صفحة جزء
              القول في البيان عما في هذه الأخبار من الغريب

              فمن ذلك قول الذي سأل ابن عباس فقال له: إنا قدمنا البلد ونحن آمنون خافضون.

              يعني بقوله: خافضون: ساكنون وادعون لا نحارب أحدا.

              وأصله من خفض الصوت، وهو سكونه، وترك رفعه.

              يقال للرجل: [ ص: 268 ] اخفض من صوتك: يراد به أخفه وسكنه، واترك الضجاج.

              ومنه قول الطرماح بن حكيم:

              فاذهبوا ما إليكم خفض الحلم عناني وعريت أنقاضي

              يعني بقوله: خفض الحلم عناني: سكن الحلم جهلي وأخفاه، فذهب به، وغلب الحلم علي.

              ومنه قول جرير:

              الظاعنون على العمى لجميعهم     والخافضون بغير دار مقام



              يعني بقوله: والخافضون بغير دار مقام: والمستقرون بغير دار قرار، والساكنون بها [ ص: 269 ] وأما قول أبي جحيفة -إذ قيل له: مثل من كنت يومئذ؟ كنت أبري وأريش، فإنه يعني بقوله: أبري: كنت أنحت القداح.

              يقال منه: بريت السهم والقلم، فأنا أبريه بريا: وذلك إذا نحته، ويقال لما تساقط من العود بالنحت: البراية.

              ومنه قول نابغة بني ذبيان:


              يريش قوما ويبري الآخرين به     لله من رائش عمرو ومن بار

              ويقال للرجل إذا أنضى بعيره بطول السير عليه حتى صار حسيرا: قد برى فلان مطيه فهو يبريه بريا: وذلك إذا ذهب لحمه وشحمه، يشبه ببري القلم والقدح إذا نحتا، ويقال للبعير إذا كان باقيا على السير: إنه لذو براية.

              ومنه قول عمرو الكلب في صفة حمار وحش: [ ص: 270 ]

              على حت البراية زمخري     السواعد ظل في شري طوال



              وأما قولهم: برى فلان لفلان: فهو من غير هذا المعنى، وإنما هو من معنى المعانة والمعارضة، يقال منه: برى فلان لفلان، فهو يبري له بريا: وذلك إذا عارضه يصنع مثل صنيعه، وانبرى له.

              ومنه قول الشاعر:


              برت لك حماء العلاط سجوع     وداع دعا من خلتيك نزيع



              ويقال: فلان وفلان يتباريان: إذا كان كل واحد منهما يعارض صاحبه فيصنع مثل صنيعه.

              ومنه قولهم: فلان يباري الريح سماحة وجودا، فهو يباريها مباراة: وذلك إذا أطعم وحمل وكسا كلما هبت، فعارض هبوبها بنائل وإفضال.

              وأما البرء: فهو من غير هذه المعاني، وهو مصدر من قول القائل: برأ الله الخلق فهو يبرؤهم برءا، من قول الله جل ثناؤه: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ، يعني: من قبل أن نخلقها.

              وكذلك: ذرأ الله الخلق فهو يذرؤهم ذرءا، من قول الله عز وجل: يذرؤكم فيه ، والله ذارئ الخلق، ويذرأهم، بتسكين الهمزة [ ص: 271 ] وأما البرء، بضم الباء، فإنه في لغة تميم وأهل نجد مصدر من قولك: برئت من المرض، فأنا أبرأ منه برءا، وفي لغة أهل الحجاز من قولك: " برأت من المرض فأنا أبرأ منه برءا.

              وأما البراء بالمد، فإنه مصدر من قول القائل: برئت من كذا وكذا، فأنا أبرأ منه براء؛ ولذلك لا يثنى ولا يجمع، فيقال: هو براء من هذا الأمر، وللاثنين: هما براء منه، وللجميع: هم براء منه، الواحد والاثنان والجمع بلفظ واحد، كما يقال: هو عدل، وهما عدل، وهم عدل، ومنه قول الله عز وجل: إنني براء مما تعبدون ، فأما من قال: أنا بريء منك، فإنه يثني في التثنية، ويجمع في الجمع، فيقول: هما بريئان منك، وهم براء منك، وبريئون، وأبرياء، وبرآء.

              وأما الإبراء، فإنه من غير هذه المعاني كلها، وهو مصدر، إما من قول القائل: أبريت الناقة، فأنا أبريها إبراء، وهي ناقة مبراة: وذلك إذا جعلت لها برة.

              والبرة: الحلقة تجعل في أنف البعير، وإما من قول القائل: أبرأه الله من المرض إبراء.

              وأما البرأة: فقترة الصائد، وهي الحفرة التي يكمن فيها للصيد.

              وأما قوله: وأريش: فإنه يعني أنه كان يجعل للسهم ريشا.

              وأصل الريش الكسوة، وما يلبس.

              يقال: أعطى فلان فلانا رحلا بريشه: يراد [ ص: 272 ] بكسوته وجهازه، ويقال: إنه لحسن ريش الثياب.

              وإنما قيل لريش الطائر ريش؛ لأنه له كهيئة الكسوة واللباس لبني آدم.

              يقال منه: راش فلان فلانا: إذا أعطاه أثاثا وكسوة، فهو يريشه ريشا وريشا ورياشا، كما يقال: لبسه فهو يلبسه لباسا ولبسا.

              وقد أنشد في اللبس بكسر اللام:


              فلما كشفن اللبس عنه مسحنه     بأطراف طفل زان غيلا موشما



              ومنه الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لعن الراشي والمرتشي  والرائش الذي يريش بينهما. يعني بذلك صلى الله عليه وسلم: الذي يسفر بين الراشي والمرتشي ليحسن لكل واحد منهما فعله الذي يفعله من الإعطاء والأخذ، كالذي يحسن رائش السهم السهم بما يريشه من الريش.

              وأما قول نافع: كان ابن عمر يقصر الصلاة في السفر ما لم يجمع إقامة: فإنه يعني بقوله: ما لم يجمع إقامة: ما لم يعزم على إقامة.

              يقال منه: قد أجمع فلان على الإقامة بموضع كذا، وأزمع عليه: يراد به عزم على ذلك.

              ومنه قول الله عز وجل: فأجمعوا أمركم وشركاءكم ، يعني بذلك: أحكموا أمركم، وأعدوا واعزموا على ما أنتم عليه عازمون.

              ومنه قول الراجز: [ ص: 273 ]

              يا ليت شعري والمنى لا تنفع     هل أغدون يوما وأمري مجمع

              وأما قول عمر رحمه الله لأهل مكة: أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر: فإنه يعني بقوله: قوم سفر: قوم مسافرون، وهو مصدر؛ ولذلك لم يجمع، وهو مثل قولهم: قوم زور، وقوم صوم، وفطر، وجنب، وعدل، وما أشبه ذلك من المصادر، لفظ الواحد والاثنين والجميع، والمذكر والمؤنث، فيه واحد.

              [ ص: 274 ]

              التالي السابق


              الخدمات العلمية