فمن ذلك قول الذي سأل فقال له: إنا قدمنا البلد ونحن آمنون خافضون. ابن عباس
يعني بقوله: خافضون: ساكنون وادعون لا نحارب أحدا.
وأصله من خفض الصوت، وهو سكونه، وترك رفعه.
يقال للرجل: [ ص: 268 ] اخفض من صوتك: يراد به أخفه وسكنه، واترك الضجاج.
ومنه قول الطرماح بن حكيم:
فاذهبوا ما إليكم خفض الحلم عناني وعريت أنقاضي
يعني بقوله: خفض الحلم عناني: سكن الحلم جهلي وأخفاه، فذهب به، وغلب الحلم علي.ومنه قول جرير:
الظاعنون على العمى لجميعهم والخافضون بغير دار مقام
يعني بقوله: والخافضون بغير دار مقام: والمستقرون بغير دار قرار، والساكنون بها [ ص: 269 ] وأما قول -إذ قيل له: مثل من كنت يومئذ؟ كنت أبري وأريش، فإنه يعني بقوله: أبري: كنت أنحت القداح. أبي جحيفة
يقال منه: بريت السهم والقلم، فأنا أبريه بريا: وذلك إذا نحته، ويقال لما تساقط من العود بالنحت: البراية.
ومنه قول نابغة بني ذبيان:
يريش قوما ويبري الآخرين به لله من رائش عمرو ومن بار
ومنه قول عمرو الكلب في صفة حمار وحش: [ ص: 270 ]
على حت البراية زمخري السواعد ظل في شري طوال
وأما قولهم: برى فلان لفلان: فهو من غير هذا المعنى، وإنما هو من معنى المعانة والمعارضة، يقال منه: برى فلان لفلان، فهو يبري له بريا: وذلك إذا عارضه يصنع مثل صنيعه، وانبرى له.
ومنه قول الشاعر:
برت لك حماء العلاط سجوع وداع دعا من خلتيك نزيع
ويقال: فلان وفلان يتباريان: إذا كان كل واحد منهما يعارض صاحبه فيصنع مثل صنيعه.
ومنه قولهم: فلان يباري الريح سماحة وجودا، فهو يباريها مباراة: وذلك إذا أطعم وحمل وكسا كلما هبت، فعارض هبوبها بنائل وإفضال.
وأما البرء: فهو من غير هذه المعاني، وهو مصدر من قول القائل: برأ الله الخلق فهو يبرؤهم برءا، من قول الله جل ثناؤه: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ، يعني: من قبل أن نخلقها.
وكذلك: ذرأ الله الخلق فهو يذرؤهم ذرءا، من قول الله عز وجل: يذرؤكم فيه ، والله ذارئ الخلق، ويذرأهم، بتسكين الهمزة [ ص: 271 ] وأما البرء، بضم الباء، فإنه في لغة تميم وأهل نجد مصدر من قولك: برئت من المرض، فأنا أبرأ منه برءا، وفي لغة أهل الحجاز من قولك: " برأت من المرض فأنا أبرأ منه برءا.
وأما البراء بالمد، فإنه مصدر من قول القائل: برئت من كذا وكذا، فأنا أبرأ منه براء؛ ولذلك لا يثنى ولا يجمع، فيقال: هو براء من هذا الأمر، وللاثنين: هما براء منه، وللجميع: هم براء منه، الواحد والاثنان والجمع بلفظ واحد، كما يقال: هو عدل، وهما عدل، وهم عدل، ومنه قول الله عز وجل: إنني براء مما تعبدون ، فأما من قال: أنا بريء منك، فإنه يثني في التثنية، ويجمع في الجمع، فيقول: هما بريئان منك، وهم براء منك، وبريئون، وأبرياء، وبرآء.
وأما الإبراء، فإنه من غير هذه المعاني كلها، وهو مصدر، إما من قول القائل: أبريت الناقة، فأنا أبريها إبراء، وهي ناقة مبراة: وذلك إذا جعلت لها برة.
والبرة: الحلقة تجعل في أنف البعير، وإما من قول القائل: أبرأه الله من المرض إبراء.
وأما البرأة: فقترة الصائد، وهي الحفرة التي يكمن فيها للصيد.
وأما قوله: وأريش: فإنه يعني أنه كان يجعل للسهم ريشا.
وأصل الريش الكسوة، وما يلبس.
يقال: أعطى فلان فلانا رحلا بريشه: يراد [ ص: 272 ] بكسوته وجهازه، ويقال: إنه لحسن ريش الثياب.
وإنما قيل لريش الطائر ريش؛ لأنه له كهيئة الكسوة واللباس لبني آدم.
يقال منه: راش فلان فلانا: إذا أعطاه أثاثا وكسوة، فهو يريشه ريشا وريشا ورياشا، كما يقال: لبسه فهو يلبسه لباسا ولبسا.
وقد أنشد في اللبس بكسر اللام:
فلما كشفن اللبس عنه مسحنه بأطراف طفل زان غيلا موشما
ومنه الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لعن الراشي والمرتشي والرائش الذي يريش بينهما. يعني بذلك صلى الله عليه وسلم: الذي يسفر بين الراشي والمرتشي ليحسن لكل واحد منهما فعله الذي يفعله من الإعطاء والأخذ، كالذي يحسن رائش السهم السهم بما يريشه من الريش.
وأما قول نافع: كان يقصر الصلاة في السفر ما لم يجمع إقامة: فإنه يعني بقوله: ما لم يجمع إقامة: ما لم يعزم على إقامة. ابن عمر
يقال منه: قد أجمع فلان على الإقامة بموضع كذا، وأزمع عليه: يراد به عزم على ذلك.
ومنه قول الله عز وجل: فأجمعوا أمركم وشركاءكم ، يعني بذلك: أحكموا أمركم، وأعدوا واعزموا على ما أنتم عليه عازمون.
ومنه قول الراجز: [ ص: 273 ]
يا ليت شعري والمنى لا تنفع هل أغدون يوما وأمري مجمع
[ ص: 274 ]