الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
2903 - حدثنا أحمد، نا محمد بن عبد العزيز، نا أبي، عن بهلول بن حسان، عن إسحاق بن زياد من بني سامة بن لؤي، عن شبيب بن شيبة، عن خالد بن صفوان بن الأهتم؛ قال: [ ص: 48 ] [ ص: 49 ] وفدني يوسف بن عمر إلى هشام بن عبد الملك في وفد أهل العراق، فقدمت عليه وقد خرج مبتدئا بقرابته وحشمه وأهله، وغاشيته من جلسائه، وقد نزل في أرض صحصح في عام قد كثر وسميه، وأخرجت الأرض فيه زينتها من اختلاف ألوان نبتها، وقد ضرب له سرادق من حبرة ملونة وفرش له ألوان الفرش، وزينت بأحسن الزينة، وقد أخذ الناس مجالسهم؛ فأخرجت رأسي من ناحية الفسطاط، فنظر [ ص: 50 ] إلي شبه المستنطق لي، فقلت: أتم الله عليك يا أمير المؤمنين نعمه، وسوغكها بشكره، وجعل ما قلدك من الأمر رشدا، وعاقبة ما تؤول إليه حمدا، وخلصه لك بالبقاء، وكثره لك بالنماء، ولا كدر عليك منه صافيا، ولا خلط بسروره الردى؛ فقد أصبحت للمسلمين ثقة ومستراحا، إليك يفزعون وإليك يصدرون، وما أجد يا أمير المؤمنين شيئا هو أبلغ من حديث من سلف من قبلك من الملوك؛ فإن أذن لي أمير المؤمنين أخبره به. فاستوى جالسا وكان متكئا؛ فقال: هات يا ابن الأهتم. قال: قلت: يا أمير المؤمنين! إن ملكا من الملوك خرج في عام مثل عامنا هذا إلى الخورنق والسدير في عام قد بكر وسميه، وتتابع وليه، وأخذت الأرض منه زخرفها وزينتها، وكان قد أعطي بسطة في الملك مع الكثرة والغلبة والقهر، فنظر فأنفذ النظر، فقال لجلسائه: لمن هذا؟ قالوا: للملك. قال: فهل رأيتم أحدا أعطي مثل ما أعطيت؟ قال: وكان عنده رجل من بقايا حملة الحجة، ولم تخل الأرض من قائم لله بحجته في عباده،  فقال: أيها الملك! إنك قد سألت عن أمر؛ فتأذن لي بالجواب عنه؟ قال: نعم. قال: أرأيت ما أنت فيه؛ أشيء لم تزل فيه أم شيء صار إليك ميراثا وهو زائل عنك وصائر إلى غيرك كما صار إليك؟ قال: كذلك هو. قال: فلا أراك إنما أعجبت بشيء يسير لا تكون فيه إلا قليلا وتنقل عنه طويلا؛ فيكون غدا عليك حسابا. قال: ويحك! فأين المهرب وأين المطلب؟ فأخذته الأقشعريرة، قال: إما أن تقيم في ملكك فتعمل فيه بطاعة الله على ما ساءك وسرك وأمضك وأرمضك، وإما أن تنخلع عن ملكك وتضع تاجك وتلقي عليك أطمارك وتعبد [ ص: 51 ] ربك في هذا الجبل حتى يأتيك أجلك. فقال: إني مفكر الليلة وأوافيك في السحر، فأخبرك إحدى المنزلتين. فلما كان في السحر قرع عليه بابه، فقال: إني اخترت هذا الجبل وفلوات الأرض وقفر البلاد، وقد لبست علي أمساحي ووضعت تاجي، فإن كنت رفيقا؛ فلا تخالف. فلزما والله الجبل حتى أتاهما أجلهما جميعا. وهو الذي يقول فيه أخو تميم عدي بن زيد العبادي:

(أيها الشامت المعير بالدهر أأنت المبرأ الموفور)      (أم لديك العهد الوثيق من الأيام
بل أنت جاهل مغرور)      (من رأيت المنون خلدن أم من
ذا عليه من أن يضام خفير)      (أين كسرى كسرى الملوك أنو
ساسان أم أين قبله سابور)      (وبنو الأصفر الكرام ملوك الروم
لم يبق منهم مذكور)      (وأخو الحضر إذ بناه وإذ
دجلة تجبى إليه والخابور)      (شاده مرمرا وجلله كلسا
فللطير في ذراه وكور)      (لم يهبه ريب المنون فباد
الملك عنه فبابه مهجور)      (وتذكر رب الخورنق إذ
أشرف يوما وللهدى تفكير)      (سره ماله وكثرة ما يملك
والبحر معرض والسدير)      (فارعوى قلبه وقال فما
غبطة حي إلى الممات يصير)

قال: فبكى هشام؛ حتى اخضلت لحيته وحل عمامته، وأمر بأبنيته وبقلاع فرشه وحشمه، ولزم قصره، فأقبلت الموالي والحشم على خالد [ ص: 52 ] بن صفوان بن الأهتم، فقالوا: ماذا أردت إلى أمير المؤمنين؛ أفسدت عليه لذته ونغصت عليه باديته؟ ! فقال: إليكم عني؛ فإني عاهدت الله ألا أخلو بملك إلا ذكرته الله عز وجل. فبعث إلى كل واحد من الوفد بجائزة - وكانوا عشرة - وبعث إلى خالد بمثل جميع ما وجه إلى جميع الوفد.

التالي السابق


الخدمات العلمية