496 - مهنا بن يحيى الشامي السلمي أبو عبد الله .
حدث عن: ، بقية بن الوليد وسمرة بن ربيعة ، ومكي بن إبراهيم ، ، ويزيد بن هارون وعبد الرزاق وإمامنا ، أحمد وبشر في آخرين. روى عنه: حمدان الوراق ، وإبراهيم النيسابوري ، وعبد الله ابن إمامنا أحمد ، وسهل التستري في آخرين.
قرأت في كتاب وقد ذكر أبي بكر الخلال مهنا فقال: من كبار أصحاب . روى عن أبي عبد الله من المسائل ما فخر به، وكان أبي عبد الله يكرمه ويعرف له حق الصحبة، ورحل معه إلى أبو عبد الله ، وصحبه إلى أن مات، ومسائله أكثر من أن تحد من كثرتها، وكتب عنه عبد الرزاق مسائل كثيرة بضعة عشر جزءا مسائل جيادا عن أبيه لم تكن عند عبد الله بن أحمد عبد الله عن [ ص: 346 ] أبيه ولا عند غيره. وكان عبد الله يرفع قدره، ويذكره كثيرا، وحدث عنه بأشياء كثيرة عن أبيه وغيره.
وأخبرني عمر بن إبراهيم أبو بكر قال: سمعت مربعا قال: رأيت يكرم أحمد بن حنبل مهنا الشامي .
وقرئ على - وأنا أسمع - أن أباه قال: عبد الله بن أحمد مهنا كان معنا تلك السنة، يعني عند وكنت أرى عبد الرزاق مهنا يسأل أبي حتى يضجره، ويكرر عليه جدا حتى ربما قام وضجر، وكنت أشبهه بابن جريج حين كان يسأل . عطاء
قال عبد الله قال مهنا : لزمت ثلاثا وأربعين سنة، واتفقنا عند أبا عبد الله ورأيته عبد الرزاق بمكة عند سنة ثمان وتسعين. سفيان بن عيينة
قال عبد الله : سمعت مهنا يقول: صحبت فتعلمت منه العلم والأدب، واكتسبت به مالا. قال: قلت: كيف اكتسبت به مالا؟ قال: فقال: ولي أبا عبد الله على الصدقات، فكتب العلماء فمضوا وأخذوا. قال: وجاء إلى أبو موسى الأنصاري فعرض عليه في القول فخرج منه، فلما كان بعد ذلك ضقت فجئت إلى أبي عبد الله فقلت له: اكتب لي إلى أبي عبد الله أبي موسى في الغارمين فلم يفعل، وقال: لو بقي الإنسان على كذا وكذا لشيء يذكره ما كان ينبغي له أن يفعل هذا. قال: فسكت عنه مدة. قال: ثم عادوته الكلام فسكت عني. قال: فسكت عنه مدة قال: ثم عاودته الكلام فقال: لن أفعل، ولا أفعل. قال: فلما قال لا أفعل علمت أنه لا يفعل، فسكت عنه مدة، ثم أتيته فقلت: يا لي عليك حقوق: حق الجوار، وحق الصحبة، وجعلت أذكر له حقوقي عليه، وقد قلت لا أفعل، فأكتب عن لسانك كتابا؟ قال: فقال لي: افعل، أنت أعلم. قال: فكتبت عن لسانه، فلما جئت بالكتاب إلى أبا عبد الله أبي موسى أنكره، وقال: لا يكتب في مثل هذا، فهذا خطه؟ قال: فحدثته بالقصة، [ ص: 347 ] فقلت: إن شئت قبلت، وإن شئت وجهت إليه وسألته. قال: واختبرني وكتب لي إلى أحمد البصرة بأربعة آلاف قال: وأحسب قال: كتب لي مرة أخرى. قال: فاشتريت وبعت قال عبد الله : وكان ينسى. قال: فاكتسبت نحوا من ثلاثين ألفا.
أخبرني بركة الدلال ، أخبرنا إبراهيم بن عبد العزيز ، حدثنا محمد بن علي ، حدثنا مهنا قال: سألت عن أحمد فقال: له صحبة. فقلت: ومن أين هو؟ قال: مكي قطن معاوية بن أبي سفيان الشام .
حدثنا مهنا قال: سألت عن أحمد يزيد بن معاوية فقال: هو الذي فعل بالمدينة ما فعل. قلت: وما فعل؟ قال: نهبها. قلت: فيذكر عنه الحديث؟ قال: لا تذكر عنه الحديث، ولا ينبغي لأحد أن يكتب عنه حديثا. قلت: ومن كان معه بالمدينة حين فعل ما فعل؟ قال: أهل الشام . قلت: وأهل مصر ؟ قال: لا إنما كان أهل مصر في أمر عثمان .
أنبأنا محمد عن ، حدثنا الدارقطني أحمد بن محمد بن أبي شيبة ، حدثنا مهنا بن يحيى ، حدثنا عن زيد بن أبي الزرقاء سفيان عن عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جابر بن عبد الله إن الله افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في يومكم هذا، في شهركم هذا إلى يوم القيامة، ألا فمن تركها استخفافا بها أو تهاونا بها فلا جمع الله له شمله، ولا بارك له، ألا ولا صلاة له، ألا ولا يؤمن فاجر برا.
قال : هذا حديث غريب من حديث الدارقطني عن سفيان الثوري تفرد به علي بن زيد بن جدعان ، وتفرد به زيد بن أبي الزرقاء مهنا بن يحيى . سئل عن الدارقطني مهنا بن يحيى فقال: ثقة نبيل.
قال مهنا : سألت عن رجل مات وترك كتبا كثيرة من كتب أحمد الرازي ، وترك عليه دينا، فقلت له: فأي شيء يصنع بالكتب؟ قال: تدفن. [ ص: 348 ]
وسألت عن الرجل يحفظ الشيء، ويكون في الكتاب شيء أيهما أحب إليك؟ قال: الكتاب. أحمد
وسألت عن الرجل يجد في كتابه الشيء فيقول له الناس خلاف ما في كتابه. قال: يقول: في كتابي كذا وكذا، ويقول الناس كذا. أحمد
وسألت عن أحمد هشيم فقال: ثقة؛ إذ لم يدلس. فقلت له: والتدليس عيب هو؟ قال: نعم. قلت: : سمعت لأبي عبد الله يقول: قال بعض أصحابنا عبد الرزاق : يا لسفيان الثوري ، حدثنا كما سمعت. قال: والله ما إليه سبيل، وما هو إلا المعاني. فقال أبا عبد الله : هو ذاك. أحمد
وسألت عن أحمد قلت: ما تقول أنت فيه؟ قال: أليس يروى عن العبادلة أنهم كانوا يفعلون ذلك؟ قلت: ومن العبادلة؟ قال: الإقعاء في الصلاة ، عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير . قلت وعبد الله بن عمرو بن العاص : لأحمد ؟ قال: ليس وابن مسعود من العبادلة. عبد الله بن مسعود
أخبرنا المبارك - قراءة - أخبرنا إبراهيم ، أخبرنا ، أخبرنا أبو عمر طيب ، أخبرنا أحمد القطان الهيتي ، حدثنا سهل التستري قال: قرأ علينا مهنا بن يحيى الشامي .
رسالة الصلاة :
هذا كتاب في الصلاة وعظم خطرها، وما يلزم الناس من تمامها وأحكامها، يحتاج إليه أهل الإسلام لما قد شملهم من الاستخفاف بها، والتضييع لها، ومسابقة الإمام فيها كتبه أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل إلى قوم صلى معهم بعض الصلوات.
أي قوم، إني صليت معكم فرأيت من أهل مسجدكم من سبق الإمام في الركوع والسجود والرفع والخفض، وليس لمن سبق الإمام صلاة، بذلك جاءت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه رضوان الله عليهم، جاء الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أما يخاف الذي يرفع رأسه قبل [ ص: 349 ] الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار "، وفي رواية " صورة كلب "؛ وذلك لإساءته صلاته لأنه لا صلاة له، ولو كانت له صلاة لرجي له الثواب، ولم يخف عليه العقاب أن يحول الله رأسه رأس حمار. وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ". وجاء عن الإمام يركع قبلكم، ويسجد قبلكم، ويرفع قبلكم قال: " البراء بن عازب كنا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان إذا انحط من قيامه للسجود لا يحني أحد منا ظهره حتى يضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبهته على الأرض، وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبثون خلفه قياما حتى ينحط النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكبر ويضع جبهته على الأرض وهم قيام، ثم يتبعونه ". وجاء الحديث عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم قالوا: لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستوي قائما وإنا لسجود بعد . وجاء الحديث عن أنه نظر إلى من سبق الإمام فقال: لا وحدك صليت، ولا بإمامك اقتديت، والذي لم يصل وحده ولم يقتد بإمامه فذلك لا صلاة له . وجاء الحديث عن ابن مسعود أنه نظر إلى من سبق الإمام فقال له: لا صليت وحدك، ولا صليت مع الإمام، ثم ضربه وأمره أن يعيد الصلاة ولو كانت صلاة عند ابن عمر عبد الله بن عمر ما أوجب عليه الإعادة. وجاء عن أنه قال: حطان بن عبد الله الرقاشي صلاة، فلما كان عند القعدة قال رجل من القوم: أقرت بالبر والزكاة؟ فلما قضى أبو موسى الأشعري أبو موسى الصلاة وسلم انصرف، فقال: أيكم القائل هذا الكلمات؟ فأرم القوم، ثم سألهم فأرموا [ ص: 350 ] فقال: لعلك يا حطان قلتها؟ قال: قلت: والله ما قلتها، ولقد خفت أن تبكعني بها، فقال رجل من القوم: أنا قلتها، ولم أرد بها إلا الخير، فقال: : أما تعلمون كيف تقولون في صلاتكم؟ إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبنا فبين لنا سنتنا وما تقول فيها قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أبو موسى الأشعري "، وإذا قال: "غير المغضوب عليهم ولا الضالين" فقولوا: "آمين" يجبكم الله، وإذا كبر وركع فكبروا واركعوا، فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فتلك بتلك، وإذا رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمده، فارفعوا رؤوسكم وقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، يسمع الله لكم، وإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا، وإذا رفع رأسه فكبر فارفعوا رؤوسكم وكبروا. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فتلك بتلك، وإذا كان في القعدة فليكن من أول قول أحدكم: التحيات لله والصلوات والطيبات حتى تفرغوا من التشهد ". إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كبر الإمام فكبروا، وإذا قرأ فانصتوا صلى بنا
قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " " معناه أن تنتظروا الإمام حتى يكبر ويفرغ من تكبيره وينقطع صوته، ثم تكبرون بعده، والناس يغلطون في هذه الأحاديث ويجهلونها مع ما عليه عامتهم من الاستخفاف بالصلاة، والاستهانة بها، فساعة يأخذ الإمام في التكبير يأخذون معه في التكبير، وهذا خطأ لا ينبغي لهم أن يأخذوا في التكبير حتى يكبر الإمام ويفرغ من تكبيره وينقطع صوته، وهكذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إذا كبر الإمام فكبروا " والإمام لا يكون مكبرا حتى يقول " الله أكبر " لأن الإمام لو قال: الله، ثم سكت لم يكن مكبرا حتى يقول: الله أكبر، فيكبر الناس بعد قوله: الله أكبر، وأخذهم في التكبير مع الإمام خطأ وترك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، [ ص: 351 ] لأنك لو قلت: إذا صلى فلان فكلمه معناه: أن تنتظره حتى إذا صلى وفرغ من صلاته كلمه، وليس معناه أن تكلمه وهو يصلي، فكذلك معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إذا كبر الإمام فكبروا "، وربما طول الإمام في التكبير إذا لم يكن له فقه، والذي يكبر معه ربما جزم التكبير، ففرغ من التكبير قبل أن يفرغ الإمام فقد صار هذا مكبرا قبل الإمام، ومن كبر قبل الإمام فليست له صلاة؛ لأنه دخل في الصلاة قبل الإمام، وكبر قبل الإمام، فلا صلاة له. إذا كبر فكبروا
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إذا كبر وركع فكبروا واركعوا " معناه: أن ينتظروا الإمام حتى يكبر ويركع وينقطع صوته وهم قيام، ثم يتبعونه.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " فإذا رفع رأسه، وقال: سمع الله لمن حمده، فارفعوا رؤوسكم وقولوا: اللهم ربنا لك الحمد " معناه: أن ينتظروا الإمام، ويثبتوا ركعا حتى يرفع الإمام رأسه ويقول: " سمع الله لمن حمده "، وينقطع صوته وهم ركع، ثم يتبعونه فيرفعون رؤوسهم ويقولون: " اللهم ربنا لك الحمد ".
وقوله: " " معناه: أن يكونوا قياما حتى يكبر وينحط للسجود ويضع جبهته على الأرض وهم قيام، ثم يتبعونه، وكذلك جاء عن إذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا . وهذا كله موافق لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " البراء بن عازب ". الإمام يركع قبلكم، ويرفع قبلكم
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " وإذا رفع رأسه وكبر فارفعوا رؤوسكم وكبروا " معناه: أن يثبتوا سجودا حتى يرفع رأسه فيكبر وينقطع الإمام صوته وهم سجود اتبعوه فرفعوا رؤوسهم.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " فتلك بتلك " يعني انتظاركم إياه قياما حتى يكبر ويرفع وأنتم قيام، ثم تتبعونه، وانتظاركم إياه ركوعا حتى يرفع رأسه ويقول: سمع الله لمن حمده وأنتم ركوع، فإذا قال: "سمع الله لمن حمده" [ ص: 352 ] وانقطع صوته وأنتم ركوع اتبعتموه فرفعتم رؤوسكم وقلتم: "اللهم ربنا لك الحمد"، وقوله: " فتلك بتلك " في كل رفع وخفض، وهذا تمام الصلاة فأعقلوه وأبصروه وأحكموه.
واعلموا أن أكثر الناس اليوم ما يكون لهم صلاة لسبقهم الإمام بالركوع والسجود والرفع والخفض، وقد جاء الحديث قال: يأتي على الناس زمان يصلون ولا يصلون ، وقد تخوفت أن يكون هذا الزمان لو صليت في مائة مسجد ما رأيت أهل مسجد واحد يقيمون الصلاة على ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه رحمة الله عليهم؛ فاتقوا الله، وانظروا في صلاتكم وصلاة من يصلي معكم.
واعلموا أن لو أن رجلا أحسن الصلاة فأتمها وأحكمها، ثم نظر إلى من أساء في صلاته وضيعها وسبق الإمام فيها فسكت عنه ولم يعلمه في إساءته في صلاته ومسابقته الإمام فيها، ولم ينهه عن ذلك، ولم ينصحه شاركه في وزرها وعارها؛ وجاء الحديث عن فالمحسن في صلاته شريك المسيء في إساءته إذا لم ينهه ولم ينصحه. أنه قال: الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا ظهرت فلم تغير ضرت العامة؛ لتركهم ما لزمهم، وما وجب عليهم من التغيير والإنكار على من ظهرت منه الخطيئة. وجاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " بلال بن سعد ويل للعالم من الجاهل؛ حيث لا يعلمه ". فلولا أن تعليم الجاهل واجب على العالم لازم وفريضة وليس بتطوع ما كان له الويل في السكوت عنه، وفي ترك تعليمه، والله تعالى لا يؤاخذ من ترك التطوع، إنما يؤاخذ من ترك الفرائض، فتعليم الجاهل فريضة؛ فلذلك كان له الويل في السكوت عنه وترك تعليمه.
فاتقوا الله تعالى في أموركم عامة وفي صلاتكم خاصة، واتقوا الله في تعليم [ ص: 353 ] الجاهل، فإن تعليمه فريضة واجب لازم، والتارك لذلك مخطئ آثم.
وأمروا أهل مسجدكم بإحكام الصلاة وإتمامها، وأن لا يكون تكبيرهم إلا بعد تكبير الإمام، ولا يكون ركوعهم وسجودهم ورفعهم وخفضهم إلا بعد تكبير الإمام، وبعد ركوعه وسجوده ورفعه وخفضه.
واعلموا أن ذلك من تمام الصلاة، وذلك الواجب على الناس، واللازم لهم. كذلك جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه رحمة الله عليهم.
ومن العجب أن يكون الرجل في منزله فيسمع الأذان فيقوم فزعا يتهيأ، ويخرج من منزله يريد الصلاة ولا يريد غيرها، ثم لعله يخرج في الليلة المطيرة المظلمة، ويتخبط في الطين ويخوض الماء، وتبتل ثيابه وإن كان في ليالي الصيف فليس يأمن العقارب والهوام في ظلمة الليل، ولعله مع هذا أن يكون مريضا ضعيفا، فلا يدع الخروج إلى المسجد، فيتحمل هذا كله إيثارا للصلاة وحبا لها وقصدا إليها لم يخرجه من منزله غيرها، فإذا دخل مع الإمام في الصلاة خدعه الشيطان، فيسابق الإمام في الركوع والسجود والرفع والخفض خدعا من الشيطان له لما يريد من إبطال صلاته، وإحباط عمله، فيخرج من المسجد ولا صلاة له.
ومن العجب أنهم كلهم يستيقنون أنه ليس أحد ممن خلف الإمام ينصرف من صلاته حتى ينصرف الإمام، وكلهم ينتظرون الإمام حتى يسلم، وهم كلهم إلا ما شاء الله يسابقونه في الركوع والسجود والرفع والخفض خدعا من الشيطان لهم، واستخفافا بالصلاة منهم، واستهانة بها، وذلك حظهم من الإسلام. وقد جاء الحديث قال: لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، فكل مستخف [ ص: 354 ] بالصلاة مستهين بها هو: مستخف بالإسلام، مستهين به، وإنما حظهم من الإسلام على قدر حظهم من الصلاة، ورغبتهم في الإسلام على قدر رغبتهم في الصلاة.
فاعرف نفسك يا عبد الله، واعلم أن حظك من الإسلام وقدر الإسلام عندك بقدر حظك من الصلاة وقدرها عندك، واحذر أن تلقى الله - عز وجل - ولا قدر للإسلام عندك، فإن قدر الإسلام في قلبك كقدر الصلاة في قلبك، وقد جاء الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " " ألست تعلم أن الفسطاط إذا سقط عموده سقط الفسطاط، ولم ينتفع بالطنب ولا بالأوتاد، وإذا قام عمود الفسطاط انتفعت بالطنب والأوتاد، فكذلك الصلاة من الإسلام. الصلاة عمود الإسلام
فانظروا - رحمكم الله - واعقلوا وأحكموا الصلاة، واتقوا الله فيها، وتعاونوا عليها، وتناصحوا فيها بالتعليم من بعضكم لبعض والتذكير من بعضكم لبعض من الغفلة والنسيان؛ فإن الله - عز وجل - قد أمركم أن تعاونوا على البر والتقوى، والصلاة أفضل البر، وجاء الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون منه الصلاة، وليصلين أقوام لا خلاق لهم "، وجاء الحديث أن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن تقبلت منه صلاته تقبل منه سائر عمله، وإن ردت صلاته رد سائر عمله، فصلاتنا آخر ديننا، وهي أول ما نسأل عنه غدا من أعمالنا، فليس بعد ذهاب الصلاة إسلام ولا دين، فإذا صارت الصلاة آخر ما يذهب من الإسلام فكل شيء يذهب آخره فقد ذهب جميعه؛ فتمسكوا - رحمكم الله - بآخر دينكم. [ ص: 355 ]
وليعلم المتهاون بصلاته المستخف بها المسابق الإمام فيها أنه لا صلاة له، وأنه إذا ذهبت صلاته فقد ذهب دينه؛ فعظموا الصلاة رحمكم الله، وتمسكوا بها، واتقوا الله فيها خاصة وفي أموركم عامة.
واعلموا أن الله - عز وجل - قد عظم خطر الصلاة في القرآن، وعظم أمرها وشرفها وشرف أهلها، وخصها بالذكر من بين الطاعات كلها في مواضع من القرآن كثيرة، وأوصى بها خاصة.
فمن ذلك أن الله تعالى ذكر أعمال البر التي أوجب لأهلها الخلود في الفردوس، فافتتح تلك الأعمال بالصلاة، وختمها بالصلاة، وجعل تلك الأعمال التي جعل لأهلها الخلود في الفردوس بين ذكر الصلاة مرتين قال الله تعالى: " قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون " فبدأ من صفتهم بالصلاة عند مديحه إياهم، ثم وصفهم بالأعمال الطاهرة الزاكية المرضية إلى قول الله - عز وجل - : " والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون " فأوجب الله - عز وجل - لأهل هذه الأعمال الشريفة الزاكية المرضية الخلود في الفردوس، وجعل هذه الأعمال بين ذكر الصلاة مرتين، ثم عاب الله - عز وجل - الناس كلهم وذمهم ونسبهم إلى اللؤم والهلع والجزع والمنع للخير إلا أهل الصلاة؛ فإنه استثناهم منهم فقال الله - عز وجل - : " إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا "، ثم استثنى المصلين منهم فقال: " إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم "، ثم وصفهم بالأعمال الزاكية الطاهرة المرضية الشريفة إلى قوله: " والذين هم بشهاداتهم قائمون "، ثم ختم بثنائه عليهم ومدحهم بأن ذكرهم بمحافظتهم على الصلاة فقال: " والذين هم على صلاتهم يحافظون أولئك في جنات مكرمون " [ ص: 356 ] فأوجب لأهل هذه الأعمال الكرامة في الجنة، وافتتح ذكر هذه الأعمال بالصلاة، وختمه بالصلاة، فجعل ذكر هذه الأعمال بين ذكر الصلاة مرتين، ثم ندب الله - عز وجل - رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطاعة كلها جملة، وأفرد الصلاة بالذكر من بين الطاعة كلها، والصلاة هي من الطاعة فقال - عز وجل - : " اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة " ففي تلاوة الكتاب: فعل جميع الطاعات، واجتناب جميع المعصية؛ فخص الصلاة بالذكر فقال: " وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر " وإلى الصلاة خاصة ندبه الله - عز وجل - فقال: " وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك " فأمره أن يأمر أهله بالصلاة، ويصطبر عليها، ثم أمر الله تعالى جميع المؤمنين بالاستعانة على طاعته كلها بالصبر، ثم خص الصلاة بالذكر من بين الطاعة كلها فقرنها مع الصبر بقوله: " يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين "، فكذلك أمر الله تعالى بني إسرائيل بالاستعانة بالصبر والصلاة على جميع الطاعة، ثم أفرد الصلاة من بين الطاعة فقال: " واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ". ومثل ذلك ما أخبر الله - عز وجل - به من حكمه ووصيته خليله إبراهيم ولوطا وإسحاق ويعقوب فقال: " يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم " إلى قوله: " ونجيناه ولوطا " إلى قوله: " ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة " إلى قوله: " وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة "، فذكر الخيرات كلها جملة، وهي جميع الطاعات، واجتناب جميع المعصية، وأفرد الصلاة بالذكر، وأوصاهم بها خاصة، ومثل ذلك ما ذكر عن إسماعيل في قوله: " وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا "، فبدأ بالصلاة، ومثل ذلك عن نجيه موسى عليه السلام في قوله: " هل أتاك حديث موسى إلى قوله: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري "؛ فأجمل الطاعة واجتناب المعصية في قوله لموسى : "فاعبدني" [ ص: 357 ] وأفرد الصلاة وأمر بها خاصة. وقال الله - عز وجل - : " والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة "، والتمسك بالكتاب يأتي على جميع الطاعة، واجتناب جميع المعصية، ثم خص الصلاة بالذكر فقال: " وأقاموا الصلاة "، وإلى تضييع الصلاة نسب الله - عز وجل - من أوجب له العذاب قبل المعاصي فقال: " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا " فمن اتباع الشهوات ركوب جميع المعاصي فنسبهم الله - عز وجل - إلى جميع المعصية في تضييع الصلاة.
فهذا ما أخبر الله تعالى به من آي القرآن من تعظيم الصلاة، وتقديمها بين يدي الأعمال كلها، وإفرادها بالذكر من بين جميع الطاعات، والوصية بها دون أعمال البر عامة؛ فالصلاة خطرها عظيم، وأمرها جسيم.
وبالصلاة أمر الله تبارك وتعالى رسوله أول ما أوحى إليه بالنبوة قبل كل عمل، وقبل كل فريضة، وبالصلاة أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - عند خروجه من الدنيا فقال: في آخر وصيته إياهم. وجاء الحديث أنها آخر وصية كل نبي لأمته، وآخر عهده إليهم عند خروجه من الدنيا. وجاء في حديث آخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " الله الله في الصلاة، وفيما ملكت أيمانكم أنه كان يجود بنفسه ويقول: الصلاة، الصلاة، الصلاة ".
فالصلاة أول فريضة فرضت عليهم، وهي آخر ما أوصى به أمته، وآخر ما يذهب من الإسلام، وهي أول ما يسأل عنه العبد من عمله يوم القيامة، وهي عمود الإسلام، وليس بعد ذهابها دين ولا إسلام؛ فالله الله في أموركم عامة وفي صلاتكم خاصة، فتمسكوا بها، واحذروا تضييعها، والاستخفاف بها، ومسابقة [ ص: 358 ] الإمام فيها، وخداع الشيطان أحدكم عنها وإخراجه إياكم منها؛ فإنها آخر دينكم، ومن ذهب آخر دينه فقد ذهب دينه كله فتمسكوا بآخر دينكم.
وأمر يا عبد الله الإمام أن يهتم بصلاته ويعنى بها ويتمكن ليتمكنوا إذا ركع وسجد، فإني صليت يومئذ فما استمكنت من ثلاث تسبيحات في الركوع، ولا ثلاث في السجود؛ وذلك لعجلته لم يمكن ولم يستمكن وعجل، فأعلمه أن الإمام إذا أحسن الصلاة كان له أجر صلاته ومثل أجر من يصلي خلفه، وإذا أساء كان عليه وزر إساءته ووزر من يصلي خلفه. وجاء الحديث عن أنه قال: التسبيح التام سبع، والوسط من ذلك خمس، وأدناه ثلاث تسبيحات ، وأدنى ما يسبح الإمام في الركوع: سبحان ربي العظيم ثلاث مرات، وفي السجود: سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات، وإذا سبح في الركوع والسجود ثلاثا ثلاثا فينبغي له أن لا يعجل بالتسبيح، ولا يسرع فيه، ولا يبادر، وليكن بتمام من كلامه ولسانه ويمكن، فإنه إذا عجل بالتسبيح، وبادر به لم يدرك من خلفه التسبيح، وصاروا مبادرين إذا بادر وسابقوه ففسدت صلاتهم؛ فكان عليه مثل وزرهم جميعا، وإذا لم يبادر الإمام وتمكن وأتم صلاته وتسبيحه أدرك من خلفه ولم يبادروا فيكون الإمام قد قضى ما عليه، وليس عليه إثم ولا وزر. الحسن البصري
وأمره إذا رفع رأسه من الركوع فقال: سمع الله لمن حمده أن يثبت قائما معتدلا حتى يقول: ربنا ولك الحمد، وهو قائم معتدل من غير عجلة في كلامه ولا مبادرة، وإن زاد على ذلك فقال: ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الأرض كان أحب إلي؛ لأنه جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رفع رأسه فقال: " ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد " .
[ ص: 359 ] وهذا لا يكاد يطمع فيه اليوم من الناس، وجاء عن قال: أنس "، وما في هذا مطمع من الناس اليوم، ولكن ينبغي للإمام أن لا يبادر إذا رفع رأسه من الركوع ولا يعجل بقوله: ربنا ولك الحمد، وليكن ذلك بتمام من كلامه وتمكن وتأن من غير عجلة ولا مبادرة، حتى يدرك الناس معه، وإذا سجد ورفع رأسه من السجود فليعتدل جالسا، وليثبت بين السجدتين شيئا بقدر ما يقول: "رب اغفر لي" من غير عجلة، حتى يدركه الناس قبل أن يسجد الثانية، ولا يبادر فساعة يرفع رأسه من السجدة الأولى يعود ساجدا، فيبادر الناس لمبادرته ويقعون في المسابقة فتذهب صلاتهم، ويلزم الإمام وزر ذلك وإثمه، فإن الناس إذا علموا أنه يثبت ثبتوا ولم يبادروا، وقد جاء الحديث " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا رفع رأسه من الركوع يقوم حتى يقال قد نسي أن كل مصل راع ومسئول عن رعيته "، وقد قيل: إن الإمام راع لمن يصلي بهم، فما أولى بالإمام النصيحة لمن يصلي خلفه، وأن ينهاهم عن المسابقة في الركوع والسجود، وأن لا يركعوا ويسجدوا مع الإمام، بل يأمرهم بأن يكون ركوعهم وسجودهم ورفعهم وخفضهم بعده، وأن يحسن أدبهم وتعليمهم؛ إذ كان راعيا لهم، وكان غدا مسئولا عنهم، وما أولى بالإمام أن يحسن صلاته ويتمها ويحكمها، وتشتد عنايته بها؛ إذ كان له مثل أجر من يصلي خلفه إذا أحسن، وعليه مثل وزرهم إذا أساء.
ومن الحق الواجب على المسلمين أن يقدموا خيارهم وأهل الدين والفضل منهم، وأهل العلم بالله تعالى الذين يخافون الله - عز وجل - ويراقبونه. وقد جاء الحديث " إذا أم بالقوم رجل وخلفه من هو أفضل منه لم يزالوا في سفال " [ ص: 360 ] وجاء الحديث: " اجعلوا أمر دينكم إلى فقهائكم، وأئمتكم قراؤكم " وإنما معناه: الفقهاء والقراء أهل الدين والفضل والعلم بالله والخوف من الله - عز وجل - الذين يعنون بصلاتهم وصلاة من خلفهم، ويتقون ما يلزمهم من وزر أنفسهم ووزر من خلفهم إن أساؤوا في صلاتهم.
ومعنى القراء: ليس على الحفظ للقرآن؛ فقد يحفظ القرآن من لا يعمل به، ولا يعبأ بدينه، ولا بإقامة حدود القرآن، وما فرض الله - عز وجل - عليه فيه. وقد جاء الحديث " إن أحق الناس بهذا القرآن من كان يعمل به، وإن كان لا يقرأ " فالإمامة بالناس، المقدم بين أيديهم في الصلاة بهم على الفضل، فليس للناس أن يقدموا بين أيديهم إلا أعلمهم بالله، وأخوفهم له، ذلك واجب عليهم ولازم لهم فتزكو صلاتهم، وإن تركوا ذلك لم يزالوا في سفال وإدبار وانتقاص من دينهم، وبعد من الله، ومن رضوانه، ومن جنته.
فرحم الله قوما عنوا بصلاتهم، وعنوا بدينهم؛ فقدموا خيارهم، واتبعوا في ذلك سنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وطلبوا بذلك القربة إلى ربهم عز وجل.
وأمر يا عبد الله الإمام أن لا يكبر - أول ما يقوم مقامه للصلاة - حتى يلتفت يمينا وشمالا، فإن رأى الصف معوجا والمناكب مختلفة أمرهم أن يسووا صفوفهم، وأن يحاذوا مناكبهم، فإن رأى بين كل رجلين فرجة أمرهم أن يدنو بعضهم من بعض حتى تتماس مناكبهم.
واعلم ، وأن الفرجة التي تكون بين كل رجلين تنقص من الصلاة؛ فاحذروا ذلك، وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أن اعوجاج الصفوف واختلاف المناكب ينقص من الصلاة ". وقد جاء الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " رصوا الصفوف، وحاذوا المناكب، وسدوا [ ص: 361 ] الخلل لا يقوم بينكم مثل الحذف - يعني أولاد الغنم الصغار - من الشياطين ". وقد أنه كان إذا قام مقامه للصلاة لم يكبر حتى يلتفت يمينا وشمالا فيأمرهم بتسوية مناكبهم ويقول: لا تختلفوا فتختلف قلوبكم "؛ فتسوية الصفوف ودنو الرجال بعضهم من بعض من تمام الصلاة، وترك ذلك نقص في الصلاة، وجاء الحديث عن جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - : " أنه التفت يوما فرأى رجلا قد خرج صدره من الصف فقال: لتسون مناكبكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم عمر أنه كان يقوم مقام الإمام، ثم لا يكبر حتى يأتيه رجل قد وكله بإقامة الصفوف فيخبره أنهم قد استووا؛ فيكبر، وجاء عن مثل ذلك، وروي " عمر بن عبد العزيز بلالا كان يسوي الصفوف، ويضرب عراقيبهم بالدرة حتى يستووا ". أن
قال بعض العلماء: وقد يشبه أن يكون هذا من على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - عند إقامته قبل أن يدخل في الصلاة؛ لأن الحديث عن بلال جاء أنه لم يؤذن لأحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا يوما واحدا؛ إذ أتى مرجعه من بلال الشام ولم يكن للناس عهد بأذانه حينا فطلب إليه وأصحاب [ ص: 362 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأذن، فلما سمع أهل المدينة صوت أبو بكر ذكروا النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد طول عهدهم بأذان بلال وصوته: جدد ذلك في قلوبهم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وشوقهم أذانه إليه حتى قال بعضهم: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - شوقا منهم إلى رؤيته، ولما هيجهم بلال عليه بأذانه وصوته فرقوا عند ذلك وبكوا، واشتد بكاؤهم عليه - صلى الله عليه وسلم - حتى خرج العواتق من بيوتهن؛ شوقا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سمعن صوت بلال وأذانه وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولما قال بلال : " أشهد أن بلال محمدا رسول الله " امتنع من الأذان فلم يقدر عليه، وقال بعضهم: سقط مغشيا عليه؛ حبا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وشوقا إليه، فرحم الله بلال بلالا والمهاجرين والأنصار، وجعلنا وإياكم من التابعين لهم بإحسان.
فاتقوا الله يا معشر المسلمين، وأحكموا صلاتكم، والزموا فيها سنة نبيكم وأصحابه - صلى الله عليه وسلم - وعليهم أجمعين؛ فإن ذلك هو الواجب عليكم، واللازم لكم، وقد وعد الله تعالى من اتبعهم رضوانه والخلود في جنته قال الله - عز وجل - : " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم "، فاتباع المهاجرين والأنصار واجب على الناس إلى يوم القيامة.
وجاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أنه كان له سكتتان: سكتة عند افتتاح الصلاة، وسكتة إذا فرغ من القراءة " وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسكت إذا فرغ من القراءة قبل أن يركع حتى يتنفس، وأكثر الأئمة على خلاف ذلك.
فأمره يا عبد الله إذا فرغ من القراءة أن يثبت قائما، وأن يسكت حتى يرجع إليه نفسه قبل أن يركع، ولا يصل قراءته بتكبيرة الركوع. [ ص: 363 ]
وخصلة، قد غلب عليها الناس في صلاتهم إلا من شاء الله من غير علة، وقد يفعلها شبابهم وأهل القوة والجلد منهم ينحط أحدهم من قيامه للسجود ويضع يديه على الأرض قبل ركبتيه، وإذا نهض من سجوده أو بعدما يفرغ من التشهد يرفع ركبتيه من الأرض قبل يديه، وهذا خطأ وخلاف ما جاء عن الفقهاء، وإنما ينبغي له إذا انحط من قيامه للسجود أن يضع ركبتيه على الأرض، ثم يديه، ثم جبهته، وإذا نهض رفع رأسه، ثم يديه، ثم ركبتيه، بذلك جاء الأثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
فأمروا بذلك وانهوا عنه من رأيتم يفعل خلاف ذلك، وأمروه أن ينهض إذا نهض على صدور قدميه، ولا يقدم إحدى رجليه؛ فإن ذلك مكروه، وقد جاء عن وغيره أن عبد الله بن عباس تقديم إحدى الرجلين إذا نهض يقطع الصلاة.
ويستحب للمصلي أن يكون بصره إلى موضع سجوده، ولا يرفع بصره إلى السماء وإذا سجد يضع أصابع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه وهو ساجد، ويضم أصابعه ويوجهها نحو القبلة، ويبدي مرفقيه وساعديه، ولا يلزقهما بجنبيه، جاء الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " ولا يلتفت؛ فاحذروا الالتفات فإنه مكروه، وقد قيل: يقطع الصلاة، ". وجاء عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم قالوا: " أنه كان إذا سجد لو مرت بهمة تحت ذراعيه لنفذت؛ وذلك لشدة مبالغته في رفع مرفقيه وضبعيه كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد جافى بين ضبعيه؛ فأحسنوا السجود رحمنا الله وإياكم ولا تضيعوا شيئا " فقد [ ص: 364 ] جاء في الحديث إن العبد يسجد على سبعة أعضاء فأي عضو منها ضيعه لم يزل ذلك العضو يلعنه .
وينبغي له إذا ركع أن يلقم راحتيه ركبتيه، ويفرق بين أصابعه، ويعتمد على ضبعيه وساعديه، ويسوي ظهره ولا يرفع رأسه ولا ينكسه، فقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أنه كان إذا ركع لو كان قدح من ماء على ظهره ما تحرك من موضعه؛ وذلك لاستواء ظهره، ومبالغته في ركوعه - صلى الله عليه وسلم - ".
فأحسنوا صلاتكم رحمكم الله، وأتموا ركوعها وسجودها وحدودها؛ فإنه جاء الحديث " ". إن العبد إذا صلى فأحسن الصلاة صعدت ولها نور، فإذا انتهت إلى أبواب السماء فتحت لها أبواب السماء، وتشفع لصاحبها وتقول: حفظك الله كما حفظتني، وإذا أساء في صلاته فلم يتم ركوعها وسجودها وحدودها صعدت ولها ظلمة فتقول: ضيعك الله كما ضيعتني، فإذا انتهت إلى أبواب السماء غلقت أبواب السماء دونها، ثم لفت كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها
وينبغي للرجل إذا جلس للتشهد أن يفترش رجله اليسرى فيجلس عليها، وينصب رجله اليمنى ويوجه أصابعه نحو القبلة، ويضع يده اليسرى على فخذه اليسرى، ويوجه أصابعها نحو القبلة، ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويشير بإصبعه التي تلي الإبهام، ويحلق الإبهام والوسطى، ويعقد الباقين، فإذا صلى إلى سترة فليدن منها، فإن ذلك مستحب، ولا يمر أحد عليها فإن ذلك يكره.
[ ص: 365 ] جاء الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من صلى إلى سترة فليدن منها، فإن الشيطان يمر بينه وبينها "، ومما يتهاون به الناس في أمر صلاتهم تركهم المار بين يدي المصلي، وقد جاء الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " " فلو كان للمار بين يدي المصلي رخصة لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلطمه، وإنما ذلك لعظم المعصية من المار بين يدي المصلي، والمعصية من المصلي إذا لم يدرأه، وجاء الحديث قال: " ادرأ المار فإن أبى فادرأه، فإن أبى فالطمه؛ فإنما هو شيطان ". وجاء الحديث " أن لو يعلم أحدكم ما عليه في ممره بين يدي أخيه في صلاته لانتظر أربعين خريفا كان يصلي فأراد ابن أخي أبا سعيد الخدري أن يمر بين يديه فمنعه مروان بن الحكم أبو سعيد ، فذهب ابن أخي مروان إلى مروان وهو يومئذ والي المدينة فشكا إليه ما صنع أبو سعيد ، وجاء أبو سعيد بعد ذلك، فدخل فقال له مروان : ما يذكر ابن أخي أنك لطمته، وكان منك إليه، فقال أبو سعيد : أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ندرأ المار، فإن أبى درأناه، فإن أبى لطمناه فإنما هو شيطان، وإنما لطمت شيطانا ".
، ثم يخرج، ويستحب له ذكر الله فيما بين الركعتين وبين صلاة الغداة، ومن الجفاء الكلام بينهما إلا كلاما واجبا لازما من تعليم الجاهل ونصيحته وأمره ونهيه؛ فإن ذلك واجب لازم، والواجب اللازم أعظم أجرا من ذكر الله تطوعا، والتطوع لا يقبل حتى يؤدى الواجب اللازم، وقد جاء الحديث: " ويستحب للرجل إذا خرج لصلاة الغداة أن يصلي الركعتين في منزله لا يقبل الله نافلة حتى تؤدى الفريضة ".
[ ص: 366 ] وخضوع، وأن يكون عليه السكينة والوقار، فما أدرك صلى وما فاته قضى، بذلك جاء الأثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " ويستحب للرجل إذا أقبل إلى المسجد أن يقبل بخوف ووجل، وخشوع وأنه كان يأمر بإثقال الخطى - يعني قرب الخطى - إلى المسجد "، ولا بأس إذا طمع أن يدرك التكبيرة الأولى أن يسرع شيئا ما لم يكن عجلة تقبح، جاء الحديث عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - " أنهم كانوا يعجلون شيئا إذا تخوفوا فوات التكبيرة الأولى، وطمعوا في إدراكها ".
فاعلموا - رحمكم الله - أن العبد إذا خرج من منزله يريد المسجد إنما يأتي الله الجبار الواحد القهار، العزيز الغفار، وإن كان لا يغيب عن الله حيث كان، ولا يعزب عنه تبارك وتعالى مثقال حبة من خردل، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر في الأرضين السبع، ولا في السماوات السبع، ولا في البحار السبعة، ولا في الجبال الصم الصلاب، الشوامخ البواذخ، وإنما يأتي بيتا من بيوت الله، ويريد الله ويتوجه إلى الله تعالى، وإلى بيت من البيوت التي " أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار " فإذا خرج أحدكم من منزله فليحدث لنفسه تفكرا وأدبا غير ما كان عليه، وغير ما كان فيه من حالات الدنيا وأشغالها، وليخرج بسكينة ووقار، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك، وليخرج برغبة ورهبة وبخوف ووجل وخضوع وتواضع لله - عز وجل - فإنه كلما تواضع لله - عز وجل - وخشع وخضع وذل لله تعالى كان أزكى لصلاته، وأحرى لقبولها، وأشرف للعبد، وأقرب له من الله، وإذا تكبر قصمه الله، ورد عمله، وليس يقبل من المتكبر عملا.
جاء الحديث عن إبراهيم خليل الله - عز وجل - " أنه أحيا ليلة فلما أصبح [ ص: 367 ] أعجب بقيام ليلته فقال: نعم الرب رب إبراهيم ، ونعم العبد إبراهيم ، فلما كان من الغد لم يجد أحدا يأكل معه، وكان يحب أن يأكل معه غيره، فأخرج طعاما إلى الطريق ليمر به مار فيأكل معه، فنزل ملكان من السماء فأقبلا نحوه فدعاهما إبراهيم إلى الغداء فأجاباه، فقال لهما: تقدما بنا إلى هذه الروضة؛ فإن فيها عينا وفيها ماء فنتغدى عندها، فتقدموا إلى الروضة، فإذا العين قد غارت وليس فيها ماء، فاشتد ذلك على إبراهيم عليه السلام واستحيى مما قال؛ إذ رأى غير ما قال. فقالا له: يا إبراهيم ادع ربك واسأله أن يعيد الماء في العين، فدعا الله - عز وجل - فلم ير شيئا، فاشتد ذلك عليه فقال لهما: ادعوا الله أنتما فدعا أحدهما فرجع وإذا هو بالماء في العين، ثم دعا الآخر فأقبلت العين فأخبراه أنهما ملكان، وأن إعجابه بقيام ليلته رد دعاءه عليه، ولم يستجب له ".
، وتواضعوا بصلاتكم فإذا قام أحدكم في صلاته بين يدي الله - عز وجل - فليعرف الله - عز وجل - في قلبه بكثرة نعمه عليه، وإحسانه إليه، فإن الله - عز وجل - قد أوقره نعما، وأنه أوقر نفسه ذنوبا؛ فليبالغ في الخشوع والخضوع لله عز وجل. فاحذروا - رحمكم الله تعالى - من الكبر، فليس يقبل مع الكبر عمل
وقد جاء الحديث " إن الله أوحى إلى عيسى ابن مريم إذا قمت بين يدي فقم مقام الحقير الذليل الذام لنفسه، فإنها أولى بالذم، فإذا دعوتني فادعني وأعضاؤك تنتفض ". وجاء الحديث: " إن الله أوحى إلى موسى نحو هذا " فما أحقك يا أخي وأولاك بالذم لنفسك إذا قمت بين يدي الله عز وجل.
وجاء الحديث عن أنه كان إذا قام في الصلاة ذهب دم وجهه؛ خوفا من الله - عز وجل - وفرقا منه، وجاء عن محمد بن سيرين مسلم : أنه كان إذا دخل [ ص: 368 ] في الصلاة لم يسمع حسا من صوت ولا غيره تشاغلا بالصلاة، وخوفا من الله - عز وجل - ، وجاء عن عامر العنبري الذي كان يقال له: عامر بن عبد قيس في حديث هذا بعضه أنه قال: " لأن تختلف الخناجر بين كتفي أحب إلي من أن أتفكر في شيء من أمر الدنيا وأنا في الصلاة ". وجاء عن سعيد بن معاذ أنه قال: ما صليت صلاة قط فحدثت نفسي فيها بشيء من أمر الدنيا حتى أنصرف ، وجاء عن أنه قال في حديث هذا بعضه: " وتعفير وجهي لربي - عز وجل - في التراب فإنه مبلغ العبادة من الله تعالى ". أبي الدرداء
فلا يتقين أحدكم التراب، ولا يكرهن السجود عليه؛ فلا بد لأحدكم منه، ولا يتقي أحدكم المبالغة فإنه إنما يطلب بذلك فكاك رقبته وخلاصها من النار التي لا تقوم لها الجبال الصم الشوامخ البواذخ التي جعلت للأرض أوتادا، ولا تقوم لها السموات السبع الطباق الشداد التي جعلت سقفا محفوظا، ولا تقوم لها الأرض التي جعلت للخلق دارا، ولا تقوم لها البحار السبع التي لا يدرك قعرها ولا يعرف قدرها إلا الذي خلقها، فكيف بأبداننا الضعيفة، وعظامنا الدقيقة، وجلودنا الرقيقة نستجير بالله من النار، نستجير بالله من النار، نستجير بالله من النار.
فإن استطاع أحدكم - رحمكم الله - إذا قام في صلاته أن يكون كأنه ينظر إلى الله - عز وجل - فإنه إن لم يكن يراه فإن الله يراه، فقد جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أنه أوصى رجلا فقال له في وصيته: اتق الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك " فهذه وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - للعبد في [ ص: 369 ] جميع حالاته، فكيف بالعبد في صلاته، إذا قام بين يدي الله - عز وجل - في موضع خاص، ومقام خاص، يريد الله ويستقبله بوجهه، ليس موضعه ومقامه وحاله في صلاته كغير ذلك من حالاته.
جاء الحديث: " إن العبد إذا افتتح الصلاة استقبله الله - عز وجل - بوجهه، فلا يصرفه عنه حتى يكون هو الذي ينصرف، أو يلتفت يمينا وشمالا. وجاء الحديث قال: " ". إن العبد ما دام في صلاته، فله ثلاث خصال: البر يتناثر عليه من عنان السماء إلى مفرق رأسه، وملائكة يحفون به من لدن قدميه إلى عنان السماء، ومناد ينادي لو يعلم العبد من يناجي ما انفتل
فرحم الله من أقبل على صلاته خاشعا خاضعا، ذليلا لله - عز وجل - خائفا، داعيا راغبا وجلا، مشفقا راجيا، وجعل أكبر همه في صلاته لربه تعالى ومناجاته إياه وانتصابه قائما وقاعدا وراكعا وساجدا، وفرغ لذلك قلبه وثمرة فؤاده، واجتهد في أداء فرائضه فإنه لا يدري هل يصلي صلاة بعد التي هو فيها أو يعاجل قبل ذلك، فقام بين يدي ربه - عز وجل - محزونا مشفقا، يرجو قبولها، ويخاف ردها، فإن قبلها سعد، وإن ردها شقي.
فما أعظم خطرك يا أخي في هذه الصلاة وفي غيرها من عملك، وما أولاك بالهم والحزن والخوف والوجل فيها، وفيما سواها، مما افترض الله عليك، إنك لا تدري هل يقبل منك صلاة قط أم لا، ولا تدري هل يقبل منك حسنة قط أم لا، وهل غفر لك سيئة قط أم لا، ثم أنت مع هذا تضحك وتغفل، وينفعك العيش، وقد جاءك اليقين أنك وارد النار، ولم يأتك اليقين أنك صادر عنها، فمن أحق بطول البكاء وطول الحزن منك حتى يتقبل الله [ ص: 370 ] منك، ثم - مع هذا - لا تدري لعلك لا تصبح إذا أمسيت، ولا تمسي إذا أصبحت، فمبشر بالجنة أو مبشر بالنار، وإنما ذكرتك يا أخي لهذا الخطر العظيم إنك لمحقوق أن لا تفرح بأهل ولا مال ولا ولد، وإن العجب كل العجب من طول غفلتك، وطول سهوك ولهوك عن هذا الأمر العظيم، وأنت تساق سوقا عنيفا في كل يوم وليلة، وفي كل ساعة وطرفة عين؛ فتوقع يا أخي أجلك، ولا تغفل عن الخطر العظيم الذي قد أظلك، فإنك لا بد ذائق الموت ولاقيه، ولعله ينزل بساحتك في صباحك أو مسائك أشد ما تكون عليها إقبالا، وكأنك قد أخرجت من ملكك كله، فإما إلى الجنة وإما إلى النار، انقطعت الصفات وقصرت الحكايات عن بلوغ صفتهما، ومعرفة قدرهما، والإحاطة بغاية خبرهما، أما سمعت يا أخي قول العبد الصالح: عجبت للنار كيف نام هاربها، وعجبت للجنة كيف نام طالبها، فوالله لئن كنت خارجا من الطلب والهرب لقد هلكت، وعظم شقاؤك، وطال حزنك وبكاؤك غدا مع الأشقياء المعذبين، وإن كنت تزعم أنك هارب طالب فاغد في ذلك على قدر ما أنت عليه من عظم الخطر، ولا تغرنك الأماني.
واعلموا - رحمكم الله - أن الإسلام في إدبار وانتقاص واضمحلال ودروس، جاء في الحديث: ترذلون في كل يوم، وقد يسرع بخياركم، وجاء الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " "، وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ "، وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لأصحابه: " خير أمتي القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، والآخر شر إلى يوم القيامة أنتم خير من أبنائكم، وأبناؤكم خير من [ ص: 371 ] أبنائهم، وأبناء أبنائكم خير من أبنائهم، والآخر شر إلى يوم القيامة ". وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - : " يأتي زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه "، وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - : " ". أن رجلا قال: كيف نهلك ونحن نقرأ القرآن، ونقرئه أبناءنا، وأبناؤنا يقرئونه أبناءهم؟ قال: ثكلتك أمك أوليس اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: فما أغنى ذلك عنهم؟ قال: لا شيء يا رسول الله
وقد أصبح الناس في نقص عظيم شديد من دينهم عامة، ومن صلاتهم خاصة، فأصبح الناس في صلاتهم ثلاثة أصناف: صنفان لا صلاة لهم.
أحدهما: الخوارج والروافض والمشبهة وأهل البدع يحقرون الصلاة في الجماعات، ولا يشهدونها مع المسلمين في مساجدهم بشهادتهم علينا بالكفر وبالخروج من الإسلام.
والصنف الثاني: من أصحاب اللهو واللعب والعكوف على هذه المجالس الرديئة على الأشربة والأعمال السيئة.
والصنف الثالث: هم أهل الجماعة الذين لا يدعون حضور الصلاة عند النداء بها، ومشاهدتها مع المسلمين في مساجدهم، فهؤلاء خير الأصناف الثلاثة، وهؤلاء مع خيرهم وفضلهم على غيرهم قد ضيعوها ورفضوها - إلا ما شاء الله - لمسابقتهم الإمام في الركوع والسجود والخفض والرفع، أو مع فعله، وإنما ينبغي لهم أن يكونوا بعد الإمام في جميع حالاتهم، ولقد أخبرنا من صلى في المسجد الحرام أيام الموسم قال: رأيت خلقا كثيرا فيه يسابقون الإمام، وأهل الموسم من كل أفق من خراسان وأفريقية وأرمينية وغيرها من البلاد إلا ما شاء الله، وقد رأينا [ ص: 372 ] تصديق ذلك، ترى الخراساني يقدم من خراسان حاجا يسبق الإمام إذا صلى معه، وترى الشامي كذلك والإفريقي والحجازي وغيرهم كذلك، قد غلبت عليهم المسابقة، وأعجب من ذلك أقوام يسبقون إلى الفضل، ويبكرون إلى الجمعة؛ طلبا للفضل في التبكير، ومنافسة فيه، فربما صلى أحدهم الفجر بالمسجد الجامع؛ حرصا على الفضل، وطلبا له فلا يزال مصليا وراكعا وساجدا وقائما وقاعدا وتاليا للقرآن وداعيا لله - عز وجل - وراغبا وراهبا، وهذه حاله إلى العصر، ويدعو إلى المغرب وهو مع هذا كله يسابق الإمام؛ خدعا من الشيطان لهم، واستيلاء يخدعهم عن الفريضة الواجبة عليهم اللازمة لهم؛ فيركعون ويسجدون معه، ويرفعون ويخفضون معه؛ جهلا منهم وخدعا من الشيطان لهم، فهم يتقربون بالنوافل التي ليست بواجبة عليهم، ثم يضيعون الفرائض الواجبة عليهم. وقد جاء الحديث: لا يقبل الله نافلة حتى تؤدى الفريضة، وإنما يطلب الفضل في التبكير إلى الجمعة غير المضيع للأصل؛ لأنه قد يستغنى بالأصل عن الفضل، ولا يستغنى بالفضل عن الأصل، فمن ضيع الأصل فقد ضيع الفضل، ومن ضيع الفضل وتمسك بالأصل وأحكمه كفي به، واستغنى عن الفضل، وإنما مثلك في طلب الفضل، وتضييعك الأصل كمثل تاجر اتجر، فجعل ينظر في الربح ويحسبه ويفرح به قبل أن يرفع رأس المال، فلم يزل كذلك يفرح بالربح، ويغفل عن النظر في رأس المال، فلما نظر إلى رأس ماله رآه قد ذهب، وذهب الربح فلم يبق رأس مال ولا ربح.
فرحم الله رجلا رأى أخاه يسبق الإمام فيركع، أو يسجد معه، أو يصلي وحده فيسيء في صلاته فينصحه، ويأمره، وينهاه، ولا يسكت عنه؛ فإن نصيحته واجبة عليه لازمة له، وسكوته عنه إثم ووزر، فإن الشيطان يريد أن تسكتوا [ ص: 373 ] عن الكلام بما أمركم الله، وأن تدعوا التعاون على البر والتقوى الذي أوصاكم الله به، والنصيحة التي عليكم من بعضكم لبعض لتكونوا مأثومين مأزورين، ولا تكونوا مأجورين، ويضمحل الدين، ويذهب، وأن لا تحيوا سنة، ولا تميتوا بدعة.
فأطيعوا الله فيما أمركم به: من التناصح، والتعاون على البر والتقوى، ولا تطيعوا الشيطان، فإن الشيطان لكم عدو مضل مبين، بذلك أخبركم الله - عز وجل - فقال: " إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا "، وقال تعالى: " يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ".
واعلموا أنما جاء هذا النقص في الصلاة من المنسوبين إلى الفضل، المبكرين إلى الجمعات ممن بالمشرق والمغرب من أهل الإسلام لسكوت أهل العلم والفقه والبصر عنهم، وتركهم ما لزمهم من: النصيحة، والتعليم، والأدب، والأمر، والنهي، والإنكار، والتغيير؛ فجرى أهل الجهالة على المسابقة للإمام، وجرى معهم كثير ممن ينسب إلى العلم والفقه، والبصر والفضل؛ استخفافا منهم بالصلاة، والعجب كل العجب من اقتداء أهل العلم بأهل الجهالة، ولمجراهم معهم في المسابقة للإمام والسجود والرفع والخفض، وفعلهم معهم وتركهم ما حملوا وسمعوا من الفقهاء والعلماء، وإنما الحق الواجب على العلماء أن يعلموا الجاهل، وينصحوه ويأخذوا على يده؛ فهم فيما تركوه آثمون عصاة خائنون لجريانهم معهم في ذلك، وفي كثير من مساويهم من الغش والنميمة ومحقرة الفقراء والمستضعفين، وغير ذلك من المعاصي؛ مما يكثر تعداده، وجاء الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ويل للعالم من الجاهل حيث لا يعلمه "؛ فتعليم الجاهل واجب على العالم، لازم له؛ لأنه لا يكون الويل للعالم من تطوع تركه لأن الله لا يؤاخذ على ترك التطوع، إنما يؤاخذ على ترك الفرائض. وجاء الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 374 ] أنه قال: " ". والمضيع لصلاته الذي يسابق الإمام فيها، ويركع ويسجد معه، أو لا يتم ركوعه ولا سجوده إذا صلى وحده فقد أتى منكرا؛ لأنه سارق، وقد جاء الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان شر الناس سرقة الذي يسرق من صلاته، قالوا: يا رسول الله، وكيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها "، فسارق الصلاة قد وجب الإنكار عليه ممن رآه، والنصيحة له أرأيت لو أن سارقا سرق درهما ألم يكن ذلك منكرا يجب الإنكار عليه ممن رآه؛ فسارق الصلاة أعظم سرقة من سارق الدرهم. وجاء الحديث عن رضي الله عنه أنه قال: " ابن مسعود من رأى من يسيء في صلاته فلم ينهه شاركه في وزرها وعارها ". وجاء في الحديث عن أنه قال: الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، فإذا ظهرت فلم تغير ضرت العامة، وإنما تضر العامة لتركهم ما يجب عليهم من الإنكار، والتغيير على الذي ظهرت منه الخطيئة، فلو أن عبدا صلى حيث لا يراه الناس فضيع صلاته، ولم يتم الركوع ولا السجود كان وزر ذلك عليه خاصة، وإذا فعل ذلك حيث يراه الناس فلم ينكروه ولم يغيروه كان وزر ذلك عليه وعليهم. بلال بن سعد
فاتقوا الله عباد الله في أموركم عامة، وفي صلاتكم خاصة، وأحكموها في أنفسكم، وانصحوا فيها إخوانكم؛ فإنها آخر دينكم، فتمسكوا بآخر دينكم، ومما أوصاكم به ربكم من بين الطاعات التي افترضها الله عامة، وتمسكوا بما عهد إليكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - خاصة من بين عهوده إليكم، فيما افترض عليكم ربكم [ ص: 375 ] عامة. وجاء الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أنه كان آخر وصيته لأمته، وآخر عهده إليهم عند خروجه من الدنيا أن اتقوا الله في الصلاة، وفيما ملكت أيمانكم ". وجاء الحديث "أنها آخر وصية كل نبي لأمته، وآخر عهده إليهم عند خروجه من الدنيا"، وهي آخر ما يذهب من الإسلام، ليس بعد ذهابها إسلام ولا دين، وهي أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من عمله، وهي عمود الإسلام، وإذا سقط: سقط العمود الفسطاط فلا ينتفع بالطنب والأوتاد، وكذلك الصلاة إذا ذهبت فقد ذهب الإسلام.
وقد خصها الله بالذكر من بين الطاعات كلها، ونسب أهلها إلى الفضل، وأمر بالاستعانة بها، وبالصبر على جميع الطاعات، واجتناب جميع المعصية.
فأمروا - رحمكم الله - بالصلاة في المساجد من تخلف عنها، وعاتبوهم إذا تخلفوا عنها، وأنكروا عليهم بأيديكم، فإن لم تستطيعوا فبألسنتكم، واعلموا أنه لا يسعكم السكوت عنهم؛ لأن ، فقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " التخلف عن الصلاة من عظيم المعصية " فتهددهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بحرق منازلهم، فلولا أن تخلفهم عن الصلاة معصية كبيرة عظيمة لما تهددهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بحرق منازلهم. وجاء الحديث: لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أخالف إلى قوم في منازلهم لا يشهدون الصلاة في جماعة فأحرقها عليهم وجار المسجد الذي بينه وبين المسجد أربعون دارا. لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد
[ ص: 376 ] فالصلاة أول فريضة فرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهي آخر ما أوصى به أمته عند خروجه من الدنيا، وهي آخر ما يذهب من الإسلام ليس بعد ذهابها إسلام ولا دين.
جاء الحديث قال: " ". من سمع المؤذن فلم يجبه فلا صلاة له إلا من عذر
وجاء عن رضي الله عنه " أنه فقد رجلا في الصلاة، فأتى منزله فصوت به، فخرج الرجل فقال: ما حبسك عن الصلاة؟ قال: علة يا أمير المؤمنين، ولولا أني سمعت صوتك ما خرجت، أو قال: ما استطعت أن أخرج. فقال: عمر بن الخطاب عمر : لقد تركت دعوة من هو أوجب عليك إجابة مني، منادي الله إلى الصلاة "، وجاء عن عمر أنه فقد أقواما في الصلاة، فقال: ما بال أقوام يتخلفون عن الصلاة، فيتخلف لتخلفهم آخرون؟ ليحضرن المسجد أو لأبعثن إليهم من يجأ في رقابهم، ثم يقول: احضروا الصلاة، احضروا الصلاة وجاء الحديث عن أنه قال: " عبد الله بن أم مكتوم " ، ولم يرخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل ضرير البصر، ضعيف البدن، شاسع الدار بينه وبين المسجد نخل وواد في التخلف عن الصلاة، فلو كان لأحد عذر في التخلف لرخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لشيخ ضعيف البدن، ضرير البصر، شاسع الدار بينه وبين المسجد نخل وواد. يا رسول الله، إني شيخ ضرير البصر، ضعيف البدن، شاسع الدار بيني وبين المسجد نخل وواد، فهل لي من رخصة إن صليت في منزلي؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : أتسمع النداء؟ قال: نعم. قال: أجب
[ ص: 377 ]
فأنكروا على المتخلفين في الصلاة؛ فإن ذنوبهم في تخلفهم عظيمة، وأنتم شركاؤهم في عظيم تلك الذنوب إن تركتم نصيحتهم، والإنكار عليهم وأنتم تقدرون على ذلك.
وجاء عن أبي الدرداء " إن الله تبارك وتعالى سن لكل نبي سنة، وسن لنبيكم، فمن سنة نبيكم هذه الصلوات الخمس في جماعة، وقد علمت أن لكل رجل منكم مسجدا في بيته، ولو صليتم في بيوتكم لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم ابن مسعود ". عن
فاتقوا الله، وأمروا بالصلاة في جماعة من تخلف، وإن لم تفعلوا تكونوا آثمين، ومن أوزارهم غير سالمين لوجوب النصيحة لإخوانكم عليكم، ولوجوب إنكار المنكر عليكم بأيديكم، فإن لم تستطيعوا فبألسنتكم.
وقد جاء الحديث: " يجيء الرجل يوم القيامة متعلقا بجاره فيقول: يا رب هذا خانني، فيقول: يا رب وعزتك ما خنته في أهل ولا مال، فيقول: صدق يا رب، ولكنه رآني على معصية فلم ينهني عنها "، والمتخلف عن الصلاة عظيم المعصية؛ فاحذر تعلقه بك غدا، وخصومته إياك بين يدي الجبار، ولا تدع نصيحته اليوم إن شتمك وآذاك وعاداك، فإن معاداته لك اليوم أهون من تعلقه بك غدا، وخصومته إياك بين يدي الجبار، ودحضه حجتك في ذلك المقام العظيم؛ فاحتمل الشتمة اليوم لله وفي الله، لعلك تفوز غدا مع النبيين والتابعين لهم في الدين.
[ ص: 378 ]
فإن رأيتم اليوم من يصلي تطوعا، ولا يقيم صلبه بين الركوع والسجود، فقد وجب عليكم أمره ونهيه ونصيحته، فإن لم تفعلوا كنتم شركاءه في الإساءة والوزر والإثم والتضييع.
واعلموا أن مما جهل الناس أن أحدهم يصلي متطوعا، ولا يتم الركوع ولا السجود، ولا يقيم صلبه؛ لأنه تطوع، فيظن أن ذلك يجزيه وليس يجزيه ذلك عن التطوع؛ لأنه من دخل في التطوع فقد صار واجبا عليه لازما له يجب عليه إتمامه وإحكامه، كما أن الرجل لو أحرم بحجة تطوعا وجب عليه قضاؤها، وإن أصاب فيها صيدا وجبت عليه الكفارة، وكما أن الرجل لو صام يوما تطوعا، ثم أفطر عند العصر وجب عليه قضاء هذا اليوم، وكما أن الرجل لو تصدق بدرهم على فقير، ثم أخذه منه وجب عليه رد ذلك الدرهم على الفقير؛ فكل تطوع دخل فيه لزمه، ووجب عليه أداؤه تاما محكما؛ لأنه حين دخل فيه فقد أوجبه على نفسه، ولو لم يدخل فيه لم يكن عليه شيء، فإذا رأيتم من يصلي تطوعا، أو فريضة فأمروه بتمام ذلك وإحكامه، إن لا تفعلوه تكونوا آثمين. عصمنا الله وإياكم.
وقد قال بعض أهل الجهل: ليس على من سبق الإمام ساهيا شيء؛ تأويلا منهم للحديث الذي جاء " "، وقد جاء الحديث بذلك، ولكنهم أخطؤوا معناه وتأويله إنما معناه: من قام ساهيا فيما ينبغي له أن يجلس فيه، أو جلس ساهيا فيما ينبغي له أن يقوم فيه، أو سها فلم يدر كم صلى ثلاثا، أو أربعا، أو ترك بعض التكبيرات ساهيا فليس عليه سهو، وليس ذلك فيمن سبق الإمام لم يجئ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن المهاجرين والأنصار بيان لمن سبق الإمام ساهيا أو غير ساه، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ليس على من خلف الإمام سهو " لم يقل إلا أن يكون ساهيا، ولم يأمره بسجدتي السهو ، وقول أما يخاف الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار : "لا وحدك صليت، ولا بإمامك اقتديت" لم يقل إلا أن تكون ساهيا، [ ص: 379 ] ولم يأمره بسجدتي السهو وقول ابن مسعود : "لا صليت وحدك، ولا صليت مع الإمام" لم يقل إلا أن تكون ساهيا، ولم يأمره بسجدتي السهو، ولكن ضربه، وأمره بالإعادة " وقول ابن عمر سلمان الذي يرفع رأسه قبل الإمام، ويخفض قبله ناصيته بيد الشيطان يخفضه ويرفعه، ولم يقل إلا أن يكون ساهيا ولم يأمره بسجدتي السهو.
وقد سها النبي - صلى الله عليه وسلم - وسها عمر وسها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنهم من سها وترك القراءة في الركعتين الأوليين، ثم قرأ في الأخريين، ومنهم من سها فقام فيما ينبغي له أن يجلس فيه، وجلس فيما ينبغي أن يقوم فيه، ففي هذا كله وفيما أشبهه سجدتا السهو، بذلك جاءت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه رضي الله عنهم، وذلك هو السنة، فأما سبق الإمام فإنما جاء عنهم أنه لا صلاة له على ما فسرت لك من قولهم: من سبق الإمام فلا صلاة له ساهيا كان أو غير ساه، وليس للسهو ههنا موضع يعذر فيه صاحبه، وكيف يجوز السهو ههنا وهو إذا رأى الإمام قد هوى من قيامه بادره فسجد قبله، أو ينظر إلى الإمام ساجدا بعد وهو قد رفع رأسه، أو ينظر إليه يريد أن يسجد فيبادر السجود قبله، أو ساعة يفرغ الإمام من القراءة يبادر فيركع قبله من قبل أن يكبر الإمام فيركع، وإنما ينبغي في هذا كله أن ينتظر حتى يركع، أو يسجد، أو يرفع، أو يخفض، وينقطع تكبيره في ذلك كله، ثم يتبعه بعد فعل الإمام وبعد انقطاع تكبيره، ليس للسهو ههنا موضع يعذر به صاحبه، ولم يعذره النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه رضي الله عنهم، ولا أمروه بسجدتي السهو، ولكن أمروه بالإعادة، وخوفه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحول الله رأسه رأس حمار، وإنما ذلك لاستخفافه بالصلاة واستهانته بها، وصغر خطرها في قلبه.
فليحذر جاهل أن يعذر نفسه فيما لا عذر له فيه؛ فيحمل وزر نفسه ووزر من يفتنه بحجة مدحوضة لم يحتج بها أحد من الأبرار.
[ ص: 380 ]
فاعتنوا عباد الله بصلاتكم؛ فإنها آخر دينكم، وليحذر امرؤ أن يظن أنه قد صلى وهو لم يصل، فإنه جاء الحديث " إن الرجل يصلي ستين سنة وما له صلاة. قيل: وكيف ذلك؟ قال: يتم الركوع ولا يتم السجود، ويتم السجود ولا يتم الركوع " وجاء الحديث عن حذيفة " أنه رأى رجلا يصلي ولا يتم ركوعه ولا سجوده " فقال حذيفة : منذ كم تصلي هذه الصلاة؟ قال: منذ أربعين سنة. قال حذيفة : ما صليت، ولو مت لمت على غير الفطرة . وجاء الحديث عن أنه بينما يحدث أصحابه؛ إذ قطع حديثه، فقالوا له ما لك يا عبد الله بن مسعود أبا عبد الرحمن قطعت حديثك؟ قال: إني أرى عجبا: أرى رجلين أما أحدهما فلا ينظر الله إليه، وأما الآخر فلا يقبل الله صلاته، قالوا من هما؟ فقال: أما الذي لا ينظر الله إليه فذلك الذي يمشي يختال في مشيته، وأما الذي لا يقبل الله صلاته فذلك الذي يصلي، ولا يتم ركوعه ولا سجوده.
وجاء الحديث " أن رجلا دخل المسجد فصلى، ثم جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : صليت يا فلان؟ قال: نعم يا رسول الله. قال: ما صليت، قم فأعدها، فأعادها، ثم جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: صليت يا فلان؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: ما صليت قم فأعدها، فأعادها، فلما كانت الثالثة أو الرابعة علمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يصلي؛ فصلى كما علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - ".
فرحم الله امرءا احتسب الأجر والثواب؛ فبث هذا الكتاب في أقطار الأرض، فإن أهل الإسلام محتاجون إليه لما قد شملهم من الاستخفاف بصلاتهم، والاستهانة بها، والله أعلم بالصواب.
وقال مهنا : قلت : لأحمد بن حنبل [ ص: 381 ] قال: لمن صحت نيته. قلت: وأي شيء تصحيح النية؟ قال: ينوي، يتواضع فيه، وينفي عنه الجهل. ما أفضل الأعمال؟ قال: طلب العلم.