الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
498 - معروف بن الفيرزان أبو محفوظ العابد المعروف بالكرخي .

منسوب إلى كرخ بغداد ، وكان أحد المشهورين بالزهد والعزوف عن الدنيا يغشاه الصالحون، ويتبرك بلقائه العارفون، وكان يوصف بأنه مجاب الدعوات، وحكي عنه كرامات، وأسند أحاديث يسيرة عن بكر بن حبيش ، والربيع بن صبيح وغيرهما. روى عنه: خلف بن هشام البزاز ، وزكريا بن يحيى المروذي ، ويحيى بن أبي طالب في آخرين. وحكى عن إمامنا أحمد حكاية وهي: ما أنبأ الوالد السعيد عن محمد بن فارس المعروف بابن الغوري قال: حدثنا أحمد بن المنادي قال: حدثنا أبو بكر عمر بن إبراهيم قال: حدثنا يحيى بن أكثم القاضي قال: سمعت معروفا - وذكر عنده أحمد بن حنبل - فقال: رأيت أحمد بن حنبل فتى عليه آثار النسك سمعته يقول كلاما جمع فيه الخير، سمعته يقول: من علم أنه إذا مات نسي أحسن ولم يسئ.

وروى هذا الحكاية عن معروف أيضا أبو الفرج عبد الوهاب بن عبد العزيز التميمي قال: سمعت أبي يقول: قيل لأبي محفوظ معروف الكرخي : هل رأيت أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ؟ قال: نعم، رأيته وسمعت منه كلمتين أزعجتاني سمعته يقول: من علم أنه إذا مات نسي أحسن ولم يسئ. [ ص: 382 ]

وذكر أبو سعيد بن الأعرابي أن أحمد بن حنبل كان يقول: معروف الكرخي من الأبدال، وهو مجاب الدعوة، وذكر في مجلس أحمد معروف الكرخي فقال بعض من حضره: هو قصير العلم. قال أحمد : أمسك عافاك الله، وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف ؟

وقال المعافى بن زكريا الجريري حدثت عن عبد الله بن أحمد بن حنبل أنه قال: قلت لأبي: هل كان مع معروف شيء من العلم؟ فقال لي: يا بني كان معه رأس العلم: خشية الله تعالى.  

وحكى إسماعيل بن شداد قال: قال لنا سفيان بن عيينة : من أين أنتم؟ قلنا: من أهل بغداد قال: ما فعل ذلك الحبر الذي فيكم؟ قلنا: من هو؟ قال: أبو محفوظ معروف قال قلنا: بخير. قال: لا يزال أهل تلك المدينة بخير ما بقي فيهم.

وقال إمامنا أحمد للمروذي : إذا أخبرت عن معروف بشيء من أخبار السماء فاقبله.

ومعروف كان أستاذ سري السقطي وصحب معروف داود الطائي ، وقال إبراهيم الحربي : قبر معروف الترياق المجرب.

وقال عبد الله بن العباس الطيالسي : قال لي ابن أخي معروف قال لي عمي معروف : إذا كان لك إلى الله حاجة فتوسل إليه بي. [ ص: 383 ]

وقال عبد الوهاب الوراق : ما رأيت أحدا أخوف لله - عز وجل - من معروف الكرخي وقال معروف : كلام العبد فيما لا يعنيه خذلان من الله له.

وقال محمد بن منصور : مضيت يوما إلى معروف ، ثم عدت إليه من غد، فرأيت في وجهه أثر شجة، فهبت أن أسأله عنها، وكان عنده رجل آخر أجرأ عليه مني، فقال: يا أبا محفوظ كنا عندك البارحة، ومعنا محمد بن منصور فلم نر في وجهك هذا الأثر؟ فقال له معروف : خذ فيما نحن فيه، وما تنتفع به، فقال له: أسألك بالله؛ فانتفض معروف وقال له: ويحك، وما حاجتك إلى هذا؟ مضيت البارحة إلى البيت الحرام فصليت ثم عشاء الآخرة، ثم صرت إلى زمزم فشربت منه، فزلت قدمي فنطح وجهي الباب. فهذا الذي تراه من ذلك.

وقال رجل لمعروف : أوصني. فقال: توكل على الله، وأكثر ذكر الموت حتى لا يكون لك جليس غيره، واعلم أن الشفاء من البلاء إذا نزل بك: كتمانه،  وأن الناس لا ينفعونك ولا يضرونك، ولا يعطونك ولا يمنعونك.

وقال معروف : إذا كان يوم القيامة أنبت الله - عز وجل - لأقوام من المؤمنين أجنحة في قبورهم، فإذا نفخ في الصور طاروا من قبورهم، فصاروا إلى الجنة، فتلقاهم الملائكة فيقولون لهم: من أنتم؟ فيقولون: نحن المؤمنون، نحن من أمة محمد نحن من أمة القرآن. فيقولون لهم: هل رأيتم الصراط؟ فيقولون: لا. فيقولون: هل رأيتم الجمع؟ فيقولون: لا. فيقولون: هل رأيتم الجليل - عز وجل - ؟ [ ص: 384 ] فيقولون: قد رأينا نوره.

فيقولون لهم: ما كانت أعمالكم في الدنيا؟ قالوا: عبدناه ولم نرد غيره، ولم يعطنا من الدنيا شيئا نحاسب عليه، فيدخلون الجنة قبل الناس بسبعين عاما.

وكان من دعاء معروف : إلهي لا الذي أطاعك استغنى عنك، ولا عن فضلك، ولا الذي عصاك غلبك، ولا استبدل بشيء دونك، سيدي كيف لي بالنجاة ولا توجد إلا لديك؟ وكيف لي بالحياة ولا توجد إلا عندك؟ بك عرفتك، لا إله إلا أنت، جل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله غيرك، اللهم إني أعوذ بك من طول أمل يمنع خير العمل.

وقال خلف بن هشام البزاز : سمعت معروفا يقول: كان يقال هذا الدعاء للفقراء، وقال خلف للدين - شك خلف يقول العبد في السحر خمسا وعشرين مرة: لا إله إلا الله. الله أكبر كبيرا. سبحان الله. والحمد لله كثيرا. اللهم إني أسألك من فضلك ورحمتك؛ فإنهما بيدك لا يملكهما أحد سواك.

قال وسمعت معروفا يقول: " جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : يا جبريل علمني دعاء أدعو به، فقال جبريل : لأعلمنك دعاء لم أعلمه أحدا قبلك. قل: اللهم استرني بالعافية في الدنيا والآخرة. قال: فعلمها النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه فقالوا: يا رسول الله، أفلا نقول: اللهم استرنا؟ قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ذاك أفضل   ".

وقال معروف : إني لأجد ألم الندم بعد الموت الساعة.

وقال معروف : إذا أراد الله بعبد خيرا فتح له باب العمل، وأغلق عنه باب الجدل، وإذا أراد بعبد شرا فتح له باب الجدل وأغلق عنه باب العمل.

[ ص: 385 ]

وقال معروف : من أدام النظر في المصحف متعه الله ببصره، وخفف عن والديه العذاب، ولو كانا كافرين.

وقال خليل الصياد : هرب ابني فمكث ثلاثة أيام أو أكثر، فجعلت أمه تبكي عليه وتقول: اخرج خلفه. فقلت: ليس يدرى أين هو أين أخرج خلفه؟ فجئت إلى معروف فقلت: ابني قد فقدته وأمه تبكي عليه تقول: اخرج في طلبه، وليس أدري أين هو؟ قال: فجعل يقول: اللهم لك ما في السماء وما في الأرض وما بينهما، لا يزيد على هذا، فانصرفت من عنده، فلما بلغت باب البصرة إذا أنا بابني قائم قال فقلت: محمد ؟ فقال: أبتي أين أنا؟ قال قلت: ببغداد بباب البصرة ، فقال: الساعة كنت بالأنبار .

وقال معروف : من سر أخاه المؤمن خلق الله من ذلك السرور يوم القيامة خلقا فيأخذ بيده حتى يدخله الجنة.

وقال معروف : من قال حين يستيقظ من النوم: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال الله - عز وجل - لجبريل : اقض حاجة عبدي، وجبريل هو الموكل بحوائج بني آدم.

وقال أبو ثابت : قعدت مرة خلف معروف في مسجد الجامع، فلم يزل يقول: واغوثاه يا الله، فأظنه قالها عشرة آلاف مرة.

قال وكان يقول: أوجب الدعاء الاستغاثة يقول الله - عز وجل - : " إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم " .

[ ص: 386 ] وقال عيسى أخو معروف : دخل رجل على معروف في مرضه الذي مات فيه فقال: يا أبا محفوظ أخبرني عن صومك. قال: كان عيسى - صلى الله عليه وسلم - يصوم كذا. قال: أخبرني عن صومك. قال: كان داود يصوم كذا. قال: أخبرني عن صومك. قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصوم كذا. قال: أخبرني عن صومك. قال: أما أنا فكنت أصبح دهري كله صائما، فإن دعيت إلى طعام أكلت، ولم أقل إني صائم.

وقال معروف : من قال: الحمد لله رب العالمين خمس مرات نظر إليه الله، ومن قال: الحمد لله كثيرا ضحك الله إليه، وإذا قال العبد: الحمد لله أبدا قال الله - عز وجل - : اكتبوها أبدا.

وقال معروف : ودع رجل البيت فقال: اللهم لك الحمد عدد عفوك عن خلقك، ثم حج من قابل فقالها، فسمع صوتا: ما أحصيناها منذ قلتها عام أول.

وقال معروف : قال بكر بن حبيش : من قال: اللهم لك الحمد أضعاف ما سبحك جميع خلقك، فقد سبح الله تسبيح أهل السماوات والأرض.

وقال معروف : ثلاث تعدادهن شكر، وتركهن كفر: الحمد لله الذي خلقني ولم أك شيئا، والحمد لله الذي علمني ولم أعلم شيئا، والحمد لله الذي رزقني ولم أملك شيئا.

وقال أسود بن سالم : حدثنا معروف قال: بلغني أنه من لعن إماما حرم عدله.

وقال معروف : من صلى ست ركعات بعد المغرب غفر له ذنوب أربعين سنة.

وقال معروف : من قرأ قل هو الله أحد حين يدخل منزله قضى الله دينه، ومن قرأها خمس مرات إذا دخل بيته أغناه الله.

[ ص: 387 ]

وقال أسود بن سالم : حدثني معروف قال: حدثني أخي الخضر قلت له: رأيته؟ قال: فقال لي: قد أخبرني أنه أتاك.

وقال أسود بن سالم : قلت لمعروف طلبت العلم؟ قال: فقال لي معروف : كيف يخاف الله من لم يعلم؟ كيف يخاف الله من لم يعلم؟

وقال معروف : من اشترى وباع ولو برأس المال بورك فيه، كما يبارك في الزرع بماء المطر.

وقال عبد الوهاب الوراق قال لنا معروف مرة: أعظكم، يوقف عبد بين يدي الله - عز وجل - يوم القيامة فيقول له: عبدي كيف تركت عيالك؟ قال: أغنياء. قال: أما إني قد أفقرتهم بعدك، انطلقوا به إلى النار، ثم قال: أعظكم، يوقف عبد بين يدي الله - عز وجل - فيقول له: كيف تركت عيالك؟ قال: فقراء. قال: أما إني قد أغنيتهم بعدك، انطلقوا به إلى الجنة.

وقال بعض السادات: رأيت فيما يرى النائم معروفا فقلت: يا أبا محفوظ أيش حالك؟ قال: صرت إلى كل خير، ولكن خرجت من الدنيا بحسرة، خرجت منها وأنا أعزب.

وقال معروف : من الإيمان كتمان المصائب.  

وقال صدقة المقابري : رأيت معروفا في النوم، وكأن أهل القبور جلوس وهو يختلف بينهم بالريحان، فقلت: يا أبا محفوظ أليس قد مت؟ فقال:


موت التقي حياة لا نفاد لها قد مات قوم وهم في الناس أحياء



أنبأنا الوالد السعيد - قدس الله روحه - قال: أخبرنا علي العكبري قال: قرأت على الحسن بن شهاب قال: أخبرنا يحيى الخصيب - إجازة - حدثنا أبو بكر [ ص: 388 ] العسكري ، أخبرنا الحسن بن خليل بن أحمد المصري ، حدثنا محمد بن علي البصري الصفار عن بعض الصالحين من أهل عبادان وحلفني أن لا أخبر باسمه، أنه قدم إلى بغداد سنة أربعين وثلاثمائة؛ شوقا منه إلى زيارة قبر أحمد بن حنبل وقبر معروف ، وأنه زار قبر معروف في يوم السبت. قال: ففرحت فرحا شديدا لما رأيت من كثرة الناس وجمعهم، وإظهار السنة، فلما قضيت زيارتي ومضيت من وقتي إلى قبر أحمد لم أصادف عند قبره إلا الواحد بعد الواحد؛ فاغتممت عند ذلك غما شديدا، ثم إني رأيت إنسانا وكأن قلبي أنس إليه دون الجماعة ممن حضر، فأطلعته على ما في نفسي من جهة قبر معروف وقبر أحمد بن محمد بن حنبل فقال: إن زيارة هذا القبر يوم الاثنين. قال: فرجعت إليه يوم الاثنين فلم أر عند قبره عشر الذي رأيته عند قبر معروف ، ولقيت ذلك الرجل بعينه، فعاودته بسبب الزيارة فقال: إن قبر أحمد بعيد، وليس ينشط إليه كل إنسان، فكأن قلبي سكن إلى ذلك من كلامه، ورجعت سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة إلى عبادان ، فبينما أنا ذات ليلة قائم في وردي لأقضيه؛ إذ حملتني عيناي فنمت وأنا جالس، فرأيت رجلا جميلا عليه ثياب بيض، وحوله جماعة من الشيوخ يعظمونه، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا أبو عبد الله أحمد بن حنبل فدنوت منه فسلمت عليه، وأردت أن أسأله عن زيارة قبره وقبر معروف فقال لي: يا فلان، كأني بك تريد أن تسألني عن زيارة قبري وقبر معروف ؟ فقلت: قد كان ذلك يا أبا عبد الله ، فقال لي: إن أخي معروفا - رحمه الله - كان أشد الناس بغضا لليهود - عليهم لعنة الله - وكان قد ألزم نفسه أن يصلي في كل يوم سبت مائة ركعة يقرأ في كل ركعة عشر مرات " قل هو الله أحد " إلى أن يعلم أن اليهود قد انصرفوا من كنائسهم؛ غيرة لله - عز وجل - وتعظيما وتنزيها. قال: فلذلك نشر الله له هذا العلم الذي رأيت كل سبت، ثم قال: يا فلان تعرفه؟ فقلت: لا والله. [ ص: 389 ]

قال: فالتفت عن يميني فإذا برجل أنضر الناس عليه ثياب بياض، فقال: هذا معروف فسلم عليه، فسلمت عليه وخلوت به فقال يا فلان: لا أكبر في عينيك لما رأيت من كثرة الزيارة عند قبري، ولا يصغر أبو عبد الله في عينيك لما رأيت من قلة الناس عند قبره، فإنه ما من يوم وليلة إلا ويدخل الله ببركته الجنة ما لا يحصى من الناس كثرة، ثم سلمت مودعا فقال لي أحمد : قم يرحمك الله لا يفوتك وردك؛ فانتبهت، والحمد لله.

ومات معروف سنة مائتين، وقيل: سنة أربع ومائتين.

التالي السابق


الخدمات العلمية