ثم جعل سبحانه علماء هذه الأمة أفضل علماء الأمم قسما وأوفرهم من الخيرات حظا أعد لهم الكرامات وقسم لهم المنازل والدرجات مع ابتلائه سبحانه لمؤمنيهم بالمنافقين ولصادقيهم بالمكذبين ولخيارهم بالأشرار ولصالحيهم بالفجار وللأماثل الرفعاء بأوضع السفهاء فلم يكن يثني العلماء ما يلقونه من الأذى عن القيام بحقوق الله تعالى في عباده وإظهار الحق في بلاده .
ولقد كان الوالد السعيد - نضر الله وجهه - ممن سلك به هذه الطريق عندما ابتلي به من أذيه هذا الفريق وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " طوبى للغرباء طوبى للغرباء قيل : يا رسول الله من الغرباء ؟ قال : ناس صالحون قليل بين ناس سوء كثير من يبغضهم أكثر ممن يطيعهم " رواه رضي الله عنهما . عبد الله بن عمرو
ومن تظاهر بإنكار البدع : فسبيله أن يصبر على أذية المخالفين محتسبا عند الله عز وجل وقد روى رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أبو هريرة " المؤمن موكل به أربعة : مؤمن يحسده وفاسق يبغضه وكافر يقاتله وشيطان يكيده " . [ ص: 214 ]
وقال " ما كان مؤمن قط فيما مضى ولا يكون مؤمن فيما بقي إلا إلى جنبه منافق يؤذيه " . الحسن البصري :
وروى رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : خباب بن الأرت " أيها الناس اتقوا الله فوالله إن كان الرجل من المؤمنين من قبلكم ليوضع المنشار على رأسه فيشق بنصفين وما يرده عن دينه فاتقوا الله فإن الله فاتح عليكم وصانع لكم " .
وروى أبو موسى رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ليس أحد أصبر على أذى يسمعه من الله يدعون له ولدا ويجعلون له صاحبة وهو يرزقهم ويعافيهم " أخرجه البخاري .
وإذا كان الباري عز وجل يصبر على ما يقول فيه الجاحدون والمشركون مع قدرته على إهلاكهم وإفنائهم ومنعهم مما يتفوهون به لما سبق في علمه من الإملاء لهم ليزدادوا إثما والأنبياء عليهم السلام قد صبروا على ما أوذوا به والصالحون قد تأسوا بهم في ذلك .
فالواحد منا مع علمه بتقصيره في كل معنى : لا ينبغي له أن يقلق لكلمة تسوءه وإذا كان القيام بالذب عن أهل الحق دينا واحتسابا فالصبر على ما يصيبه هو من تمام الاحتساب وقد جاء في الحديث : " إن الرجل ليعطى كتابه يوم القيامة منشورا فينظر فيه حسنات لم يعملها فيقول : يا رب أي شيء هذا ؟ فيقول الله عز وجل : هذا بما اغتابك الناس وأنت لا تشعر " .
ويروى عن أنه قال : " لولا أني أكره أن يعصى الله عز وجل لسرني أن لا يبقى في المصر أحد إلا اغتابني وأي شيء أشهى من حسنة يجدها المرء في صحيفته لم يعملها " . عبد الرحمن بن مهدي
وذكر أن شقيقا البلخي فاته ورده في السحر فقال له أهله : فاتك قيام الليلة فقال : إن فات ذلك فقد صلى لي من أهل بلخ أكثر من ألف نفس قالت : كيف ؟ قال : باتوا يصلون فإذا أصبحوا اغتابوني . [ ص: 215 ]
وعن بعض السلف أنه قال : إنك إذا لم تنك عدوك إلا بما يثلم به دينك فبنفسك .
وقال لا تعبأ بكلام من يتكلم فيك إلا أن يكون تقيا والتقي لا يقول ما يعرف فكيف ما لا يعرف . بشر بن الحارث :
وروي عن أنه اجتاز بخشبة عطاء بن أبي ميمونة فرفع رأسه إلى السماء فقال : يا رب حلمك عن الظالمين فتت قلوب المظلومين قال : فغشيه الكرى فرأى كأن سعيد بن جبير في الجنة والحور حوله وكأن قائلا يقول له : يا عطاء حلمنا عن الظالمين أورث المظلومين هذا المقام أو كما قال . سعيد بن جبير
وما ذكرته من أوصاف الوالد السعيد فهو كالإشارة إلى ما وراءه وأرجو أن لا يكون ذلك على سبيل التمادح لكنه على سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والرد عن أعراض علماء المسلمين وحماية المؤمنين من المنافقين .
قال رضي الله عنه : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أبو هريرة " من اغتيب عنده أخوه المسلم فلم ينصره وهو يستطيع نصره أذله الله في الدنيا والآخرة " .
وروى رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنس بن مالك " من حمى عرض أخيه في الدنيا بعث الله عز وجل ملكا يحمي لحمه عن النار " .
وقال عليه الصلاة والسلام : وقال عليه الصلاة والسلام : " ما من مسلم يعني يخذل امرءا مسلما في موطن ينتهك فيه عرضه إلا خذله الله عز وجل في موطن يحب نصرته وما من مسلم ينصر امرءا مسلما في موطن ينتقص فيه عرضه وتنتهك فيه حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته " " لمقام أحدكم في الدنيا يتكلم بكلمة حق يرد بها باطلا أو يحق بها حقا : أفضل من هجرة معي .
وقال : [ ص: 216 ] " لأن يهدي الله بهداك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس " .
وقال المروذي : - يعني إمامنا لأبي عبد الله - ترى للرجل أن يشتغل بالصوم والصلاة ويسكت عن الكلام في أهل البدع ؟ فكلح وجهه وقال : إذا هو صام وصلى واعتزل الناس أليس إنما هو لنفسه ؟ قلت : بلى قال : فإذا تكلم كان له ولغيره يتكلم أفضل . أحمد قلت