الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
956 - أخبرنا أبو عثمان ، ثنا أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم العدل ، ثنا محبوب بن عبد الرحمن القاضي ، ثنا جدي أبو بكر محمد بن أحمد بن محبوب ، ثنا أحمد بن حيويه ، حدثنا أبو عبد الرحمن العتكي ، ثنا محمد بن سلام ، قال : سألت عبد الله بن المبارك . فذكر حكاية قال فيها : فقال الرجل يا أبا عبد الرحمن ، كيف ينزل ؟ فقال عبد الله بن المبارك : " كدخاي كارخويش كن " ينزل كيف يشاء  قال أبو سليمان رحمه الله : " وإنما ينكر هذا وما أشبهه من الحديث من يقيس الأمور في ذلك بما يشاهده من النزول الذي هو نزلة من أعلى إلى أسفل ، وانتقال من فوق إلى تحت ، وهذا صفة الأجسام والأشباح ، فأما نزول من لا يستولي عليه صفات الأجسام فإن هذه المعاني غير متوهمة فيه ، وإنما هو خبر عن قدرته ورأفته بعباده ، وعطفه عليهم واستجابته دعائهم ومغفرته لهم ، يفعل ما يشاء ، لا يتوجه على صفاته كيفية ، ولا على أفعاله كمية ، سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " . وقال أبو سليمان رحمه الله في معالم السنن : وهذا من العلم الذي أمرنا أن نؤمن [ ص: 379 ] بظاهره ، وأن لا نكشف عن باطنه ، وهو من جملة المتشابه الذي ذكره الله تعالى في كتابه فقال : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات الآية فالمحكم منه يقع به العلم الحقيقي والعمل ، والمتشابه يقع به الإيمان والعلم الظاهر ، ويوكل باطنه إلى الله عز وجل ، وهو معنى قوله : وما يعلم تأويله إلا الله وإنما حظ الراسخين أن يقولوا آمنا به كل من عند ربنا . وكذلك ما جاء من هذا الباب في القرآن كقوله عز وجل : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وقوله : وجاء ربك والملك صفا صفا والقول في جميع ذلك عند علماء السلف هو ما قلناه ، وروي مثل ذلك عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم . وقد زل بعض شيوخ أهل الحديث ممن يرجع إلى معرفته بالحديث والرجال ، فحاد عن هذه الطريقة حين روى حديث النزول ، ثم أقبل على نفسه ، فقال : إن قال قائل : كيف ينزل ربنا إلى السماء ؟ قيل له : ينزل كيف يشاء . فإن قال : هل يتحرك إذا نزل ؟ فقال : إن شاء يتحرك وإن شاء لم يتحرك . وهذا خطأ فاحش عظيم ، والله تعالى لا يوصف بالحركة ، لأن الحركة والسكون يتعاقبان في محل واحد ، وإنما يجوز أن يوصف بالحركة من يجوز أن يوصف بالسكون ، وكلاهما من أعراض الحدث ، وأوصاف المخلوقين ، والله تبارك وتعالى متعال عنهما ، ليس كمثله شيء . فلو جرى هذا الشيخ على طريقة السلف الصالح ولم يدخل نفسه فيما لا يعنيه لم يكن يخرج به القول إلى مثل هذا الخطأ الفاحش .

قال : وإنما ذكرت هذا لكي يتوقى الكلام فيما كان من هذا النوع ، فإنه لا يثمر خيرا ولا يفيد رشدا ، ونسأل الله العصمة من [ ص: 380 ] الضلال ، والقول بما لا يجوز من الفاسد والمحال . وقال القتيبي : قد يكون النزول بمعنى إقبال على الشيء بالإرادة والنية ، وكذلك الهبوط والارتفاع والبلوغ والمصير ، وأشباه هذا الكلام ، وذكر من كلام العرب ما يدل على ذلك . قال : ولا يراد في شيء من هذا انتقال يعني بالذات ، وإنما يراد به القصد إلى الشيء بالإرادة والعزم والنية . قلت : وفيما قاله أبو سليمان رحمه الله كفاية ، وقد أشار إلى معناه القتيبي في كلامه ، فقال : لا نحتم على النزول منه بشيء ، ولكنا نبين كيف هو في اللغة ، والله أعلم بما أراد .

وقرأت بخط الأستاذ أبي عثمان رحمه الله في كتاب الدعوات عقيب حديث النزول : قال الأستاذ أبو منصور يعني الحمشاذي على إثر الخبر : وقد اختلف العلماء في قوله : " ينزل الله "  فسئل أبو حنيفة عنه فقال : ينزل بلا كيف . وقال حماد بن زيد : نزوله إقباله . وقال بعضهم : ينزل نزولا يليق بالربوبية بلا كيف ، من غير أن يكون نزوله مثل نزول الخلق بالتجلي والتملي ، لأنه جل جلاله منزه عن أن تكون صفاته مثل صفات الخلق ، كما كان منزها عن أن تكون ذاته مثل ذات الغير ، فمجيئه وإتيانه ونزوله على حسب ما يليق بصفاته من غير تشبيه وكيفية . ثم روى الإمام رحمه الله عقيب حكاية ابن المبارك حين سئل عن كيفية نزوله ، فقال عبد الله : " كد خداي كارخويش كن " ينزل كيف يشاء . وقد سبقت منه هذه الحكاية بإسناده وكتبتها حيث ذكرها أبو سليمان رحمه الله . .

التالي السابق


الخدمات العلمية