الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
962 - أخبرنا أبو نصر عمر بن عبد العزيز بن عمر بن قتادة ، ثنا الإمام أبو سهل محمد بن سليمان إملاء ، أنا محمد بن إسحاق بن خزيمة أبو بكر الإمام ، ثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني ، حدثنا المعتمر بن سليمان التيمي ، عن أبيه ، عن أنس بن مالك ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل أنه قال : " إذا تقرب مني عبدي شبرا تقربت منه ذراعا ، وإذا تقرب مني ذراعا تقربت منه بوعا وإذا تقرب مني بوعا أتيته أهرول "  أو كما قال . قال الشيخ أبو سهل : " وفي هذا الحديث اختصار ، ولفظة تفرد بها هذا الراوي ، إذ سائر الرواة يقولون : " إذا تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا " ويقولون في تمام الحديث : " وإذا أتاني يمشي أتيته أهرول " . والباع والبوع مستقيمان في اللغة ، جاريتان على سبيل العربية ، والأصل في الحرف الواو فقلبت الواو ألفا للفتحة . ثم الجهمية وأصناف القدرية وأخياف المعتزلية المجترئة على رد أخبار الرسول بالمزيف من المعقول ، لما ردوا إلى حولهم وأحاط بهم الخذلان واستولى عليهم [ ص: 384 ] بخدائعه الشيطان ، ولم يعصمهم التوفيق ولا استنقذهم التحقيق ، قالوا : الهرولة لا تكون إلا من الجسم المنتقل ، والحيوان المهرول ، وهو ضرب من ضروب حركات الإنسان كالهرولة المعروفة في الحج ، وهكذا قالوا ، في قوله : " تقربت منه ذراعا " ، تشبيه إذ يقال ذلك في الأشخاص المتقاربة ، والأجسام المتدانية الحاملة للأعراض ، ذوات الانبساط والانقباض ، فأما القديم المتعالي عن صفة المخلوقين ، وعن نعوت المخترعين ، فلا يقال عليه ما ينثلم به التوحيد ولا يسلم عليه التمجيد . فأقول : إن قول الرسول صلى الله عليه وسلم موافق لقضايا العقول إذ هو سيد الموحدين من الأولين والآخرين ، ولكن من نبذ الدين وراءه وحكم هواه وآراءه ، ضل عن سبيل المؤمنين ، وباء بسخط رب العالمين ، تقرب العبد من مولاه بطاعاته وإرادته وحركاته وسكناته سرا وعلنا ، كالذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ما تقرب العبد مني بمثل ما تقرب من أداء ما افترضته عليه ، فلا يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أكون له سمعا وبصرا " . وهذا القول من الرسول صلى الله عليه وسلم من لطيف التمثيل عند ذوي التحصيل ، البعيد من التشبيه ، المكين من التوحيد ، وهو أن يستولي الحق على المتقرب إليه بالنوافل حتى لا يسمع شيئا إلا به ، ولا ينطق إلا عنه ، نشرا لآلائه ، وذكرا لنعمائه ، وإخبارا عن مننه المستغرقة للخلق ، فهذا معنى قوله : يسمع به وينطق ولا يقع نظره على منظور إليه إلا رآه بقلبه موحدا ، وبلطائف آثار حكمته ، ومواقع قدرته من ذلك المرئي المشاهد ، يشهده بعين التدبير وتحقيق التقدير ، وتصديق التصوير .

وفي كل شيء له شاهد يدل على أنه واحد

فتقرب العبد بالإحسان ، وتقرب الحق بالامتنان ، يريد أنه الذي أدناه ، وتقرب العبد إليه بالتوبة والإنابة ، وتقرب الباري إليه بالرحمة والمغفرة ، وتقرب العبد إليه بالسؤال ، وتقربه إليه بالنوال ، وتقرب العبد إليه بالسر وتقربه إليه بالبشر ، لا من حيث توهمته الفرقة المضلة للأغمار والمتغابية بالإعثار . [ ص: 385 ] وقد قيل في معناه : إذا تقرب العبد إلي بما به تعبدته ، تقربت إليه بما له عليه وعدته . وقيل في معناه : إنما هو كلام خرج على طريق القرب من القلوب دون الحواس ، مع السلامة من العيوب على حسب ما يعرفه المشاهدون ، ويجده العابدون من أخبار دنو من يدنو منه ، وقرب من يقرب إليه ، فقال على هذه السبيل وعلى مذهب التمثيل ولسان التعليم بما يقرب من التفهيم ، إن قرب الباري من خلقه بقربهم إليه بالخروج فيما أوجبه عليهم ، وهكذا القول في الهرولة ، إنما يخبر عن سرعة القبول وحقيقة الإقبال ودرجة الوصول ، والوصف الذي يرجع إلى المخلوق مصروف على ما هو به لائق ، وبكونه متحقق ، والوصف الذي يرجع إلى الله سبحانه وتعالى يصرفه لسان التوحيد ، وبيان التجريد ، إلى نعوته المتعالية ، وأسمائه الحسنى . ولولا الإملال أحذره وأخشاه ، لقلت في هذا ما يطول دركه ، ويصعب ملكه ، والذي أقول في هذا الخبر وأشباهه من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم المنقولة على الصحة والاستقامة بالرواة الأثبات العدول ، وجوب التسليم ، ولفظ التحكيم ، والانقياد بتحقيق الطاعة ، وقطع الريب عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة النجباء الذين اختارهم الله تعالى له وزراء وأصفياء ، وخلفاء ، وجعلهم السفراء بيننا وبينه صلى الله عليه وسلم ، عن حق عداه أو عدوه ، وصدق تجاوزوه ، والناس ضربان : مقلدون وعلماء ، فالذين يقلدون أئمة الدين سبيلهم أن يرجعوا إليهم عند هذه الموارد ، والذين منحوا العلم ورزقوا الفهم هم الأنوار المستضاء بهم ، والأئمة المقتدى بهم ، ولا أعلمهم إلا الطائفة السنية ، والحمد لله رب العالمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية