فصل
أبو حازم إلى عافانا الله وإياك من الفتن ورحمك من النار، الزهري: قد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يرحمك، أصبحت شيخا كبيرا قد أثقلتك نعم الله عليك بما أصح من بدنك وأطال من عمرك، وعلمت حجج الله بما حملك من كتابه، وفقهك فيه من دينه، وفهمك من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ابتلى في ذلك شكرك، وقال: كتب لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد .
فانظر أي رجل تكون إذا وقفت بين يدي الله فسألك عن نعمه إليك كيف رعيتها؟، وعن حججه عليك كيف قضيتها؟ ولا تحسبن الله راضيا منك بالتعذير ولا قابلا منك بالتقصير، ليس كذاك أخذ على العلماء في كتابه فقال: لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم .
تقول: إنك جدل ماهر عالم، قد جادلت الناس فجادلتهم إدلالا منك بفهمك واقتدارا برأيك، فأين تذهب عن قول الله تعالى [ ص: 804 ] :
ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا .
اعلم أن أدنى ما ارتكبت وأعظم ما احتقبت أن آنست الظالم وسهلت له طريق الغي بدنوك حين أدنيت وإجابتك حين دعيت، فما أخلقك أن ينوه بإثمك غدا على الجرمة وأن تسأل عما أردت بإغضائك عن ظلم الظلمة، إنك أخذت ما ليس لمن أعطاك، ودنوت ممن لا يريد حقا ولا يريد باطلا حين أدناك، وأجبت من أراد التدليس بدعائه إياك حين دعاك، جعلوك قطبا تدور عليه رحا باطلهم، وجسرا يعبرون بك إلى بلابلهم، وسلما إلى ضلالتهم، يقتادون بك قلوب الجهال، ويدخلون بك الشك على العلماء، فلم يبلغ أخص وزرائهم ولا أقوى أعوانهم إلا دون ما بلغت من استصلاح فسادهم، واجتلاب الخاصة والعامة إليهم، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك، وما أقل ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك، فانظر لنفسك فإنه لا ينظر لها غيرك، وحاسبها حساب رجل مسئول، وانظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيرا وكبيرا واستحملك كتابه وأودعك علمه، مالك لا تنتبه من نعستك ولا تستقيل من عثرتك، وما يؤمنك أن تكون من الذين قال الله تعالى: فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى .
إلا إنك لست في دار مقام قد أذنت بالرحيل فما [ ص: 805 ] بقاء المرء بعد أقرانه، إنك لم تؤمر بالنظر لوارثك على نفسك، وإثقالك ظهرك لغيرك، ذهبت اللذة وبقيت التبعة، يا بؤس من يموت وتبقى ذنوبه من بعده، إنك تعامل من لا يجهل، الذي يحفظ عليك لا يغفل، تجهز فقد دنا منك سفر، وداو دينك فقد دخله سقم، واعلم أن الجاه جاهان: جاه يجريه الله على أيدي أوليائه لأوليائه الخامل ذكرهم، الخافية شخوصهم. ما أشقى من سعد بكسب غيره،
ولقد جاء نعتهم على لسان رسوله: قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل فتنة سوداء مظلمة" "إن الله يحب الأخفياء، الأتقياء الأبرياء، الذين إذا غابوا فلم يفتقدوا، وإذا شهدوا لم يعرفوا، .
فهؤلاء الذين قال الله عز وجل: أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون وجاه يجريه الله على أيدي أعدائه لأوليائه، ويقذفه في قلوبهم فيعظمهم الناس بتعظيم أولئك لهم، ويرغب الناس مما في أيديهم لرغبة أولئك إليهم: أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون .
فما أخوفني أن تكون ممن عاش مستورا عليه في دينه، مقتورا عليه في رزقه، معزولة عنه البلايا، مصروفة عنه الفتن، في عنفوان شبابه، وظهور جلده وكمال شهوته، فعني بذلك دهره حتى إذا كبرت سنه ورق عظمه وضعفت قوته، وانقطعت شهوته، فتحت الدنيا عليه شر مفتوح فلزمته تبعتها، وعلقته فتنتها وأغشت عينيه زهرتها، وصفت لغيره منفعتها، فسبحان الله، ما [ ص: 806 ] أبين هذا الغبن، وأخس هذا الأمر! كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا في كبر سنك ورسوخ علمك وحضور أجلك، فمن يلوم الحدث في سنه، الجاهل في علمه، المأفون في رأيه، المدخول في عقله، إنا لله وإنا إليه راجعون، على من المعول وعند من المستغاث، نحتسب عند الله مصيبتنا، ونشكوا إليه بثنا، ونحمد الله الذي عافانا مما ابتلاك به، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.