[ ص: 55 ] الوجه الرابع : أن يقال : أهل السنة مع الرافضة كالمسلمين مع النصارى ، فإن المسلمين يؤمنون بأن المسيح عبد الله ورسوله ، ولا يغلون فيه غلو النصارى ، ولا يجفون جفاء اليهود . والنصارى تدعي فيه الإلهية ، وتريد أن تفضله على محمد وإبراهيم وموسى ، بل تفضل الحواريين على هؤلاء الرسل ، كما تريد الروافض أن تفضل من قاتل مع علي كمحمد بن أبي بكر والأشتر النخعي ، على أبي بكر وعمر وعثمان وجمهور الصحابة من [1] المهاجرين والأنصار ، فالمسلم إذا ناظر النصراني لا يمكنه أن يقول في عيسى إلا الحق ، لكن إذا أردت أن تعرف جهل النصراني [2] وأنه لا حجة له ، فقدر المناظرة بينه وبين اليهودي [3] ; فإن النصراني لا يمكنه أن يجيب عن شبهة اليهودي إلا بما يجيب به المسلم ; فإن لم يدخل في دين الإسلام وإلا كان منقطعا مع اليهودي ، فإنه إذا أمر [4] بالإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم ، فإن قدح في نبوته بشيء من الأشياء ، لم يمكنه أن يقول شيئا إلا قال له اليهودي [5] في المسيح ما هو أعظم من ذلك ، فإن البينات لمحمد أعظم من البينات للمسيح ، وبعد أمر محمد [6] عن الشبهة أعظم من بعد المسيح عن
[ ص: 56 ] الشبهة [7] ، فإن جاز القدح فيما دليله أعظم وشبهته أبعد عن الحق ، فالقدح فيما دونه أولى ، وإن كان القدح في المسيح باطلا ، فالقدح في محمد أولى بالبطلان ، فإنه إذا بطلت الشبهة القوية ، فالضعيفة أولى بالبطلان ، وإذا ثبتت الحجة التي غيرها أقوى منها فالقوية أولى بالثبات .
( 2 ولهذا كان مناظرة كثيرة من المسلمين للنصارى من هذا الباب ، كالحكاية المعروفة عن القاضي أبي بكر بن الطيب 2 ) [8] لما أرسله المسلمون إلى ملك النصارى بالقسطنطينية ، فإنهم عظموه وعرف النصارى [9] قدره ، فخافوا أن لا يسجد للملك إذا دخل ، فأدخلوه من باب صغير ليدخل منحنيا ، ففطن لمكرهم ، فدخل مستدبرا [10] متلقيا لهم بعجزه ، ففعل نقيض ما قصدوه ، ولما جلس وكلموه أراد بعضهم القدح في المسلمين ، فقال له : ما قيل في عائشة امرأة نبيكم ؟ يريد إظهار قول الإفك الذي يقوله [ من يقوله من ] الرافضة أيضا [11] ، فقال القاضي : ثنتان قدح فيهما ورميتا بالزنا [12] إفكا وكذبا : مريم وعائشة ، فأما مريم فجاءت بالولد تحمله من غير زوج ، وأما عائشة فلم تأت بولد مع أنه [13] كان لها زوج ، فأبهت النصارى .
[ ص: 57 ] وكان مضمون كلامه أن ظهور براءة عائشة أعظم من ظهور براءة مريم ، وأن الشبهة إلى مريم أقرب منها إلى عائشة ، فإذا كان مع هذا قد ثبت كذب القادحين في مريم ، فثبوت كذب القادحين في عائشة أولى [14] .
ومثل هذه المناظرة أن يقع التفضيل بين طائفتين ، ومحاسن إحداهما أكثر وأعظم [15] ، ومساويها [16] أقل وأصغر ، فإذا ذكر ما فيها من ذلك عورض بأن مساوئ تلك أعظم ; كقوله تعالى : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ) [ ثم قال ] [17] ( وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ) [ سورة البقرة : 217 ] [18] ، فإن الكفار عيروا سرية من سرايا المسلمين بأنهم قتلوا ابن الحضرمي في الشهر الحرام ، فقال تعالى : هذا كبير وما عليه المشركون من الكفر بالله والصد عن سبيله وعن المسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله ، فإن هذا صد عما لا تحصل النجاة [ ص: 58 ] والسعادة إلا به ، وفيه من انتهاك المسجد الحرام ما هو أعظم من انتهاك الشهر الحرام .
لكن هذا النوع [19] قد اشتملت كل من الطائفتين فيه [20] على ما يذم ، وأما النوع الأول فيكون كل من الطائفتين لا يستحق الذم ، بل هناك شبه [21] في الموضعين وأدلة في الموضعين [22] ، وأدلة أحد الصنفين أقوى وأظهر ، وشبهته [23] أضعف وأخفى ، فيكون أولى بثبوت الحق ممن تكون أدلته أضعف وشبهته أقوى .
وهذا حال النصارى واليهود مع المسلمين ، وهو حال أهل البدع مع أهل السنة [ لا سيما الرافضة ] [24] .
وهكذا أمر [ أهل ] [25] السنة مع الرافضة في أبي بكر وعلي ، فإن الرافضي لا يمكنه أن يثبت إيمان علي وعدالته وأنه من أهل الجنة - فضلا عن إمامته - إن [26] لم يثبت ذلك لأبي بكر وعمر وعثمان ، وإلا فمتى أراد إثبات ذلك لعلي وحده لم تساعده الأدلة ، كما أن النصراني إذا أراد إثبات نبوة المسيح دون محمد لم تساعده الأدلة ، فإذا [ ص: 59 ] قالت [27] له الخوارج الذين يكفرون عليا أو النواصب الذين يفسقونه : إنه كان ظالما طالبا للدنيا ، وإنه طلب الخلافة لنفسه وقاتل عليها بالسيف ، وقتل على ذلك ألوفا من المسلمين حتى عجز عن انفراده بالأمر ، وتفرق عليه أصحابه وظهروا عليه فقاتلوه ، فهذا [28] الكلام إن كان فاسدا ففساد كلام الرافضي في أبي بكر وعمر أعظم [29] ، وإن كان ما قاله في أبي بكر وعمر متوجها مقبولا فهذا أولى بالتوجه والقبول ; لأنه من المعلوم للخاصة والعامة أن من ولاه الناس باختيارهم ورضاهم من غير أن يضرب أحدا لا بسيف ولا عصا ، ولا أعطى أحدا ممن ولاه مالا [30] ، واجتمعوا عليه فلم يول أحدا من أقاربه وعترته ، ولا خلف لورثته مالا من مال المسلمين وكان له مال [ قد ] أنفقه [31] في سبيل الله فلم يأخذ بدله ، وأوصى أن يرد إلى بيت مالهم ما كان عنده لهم ، وهو جرد قطيفة وبكر وأمة سوداء [32] ونحو ذلك ، حتى قال عبد الرحمن بن عوف لعمر : أتسلب هذا آل أبي بكر ؟ قال : كلا والله ، لا يتحنث فيها [33] أبو بكر وأتحملها أنا . وقال : يرحمك الله يا أبا بكر لقد أتعبت الأمراء بعدك [34] .
[ ص: 60 ] ثم مع هذا لم يقتل مسلما على ولايته ، ولا قاتل مسلما بمسلم ، بل قاتل بهم المرتدين [ عن دينهم ] [35] والكفار ، حتى شرع بهم في فتح الأمصار ، واستخلف القوي الأمين العبقري ، الذي فتح الأمصار ونصب الديوان وعمر [36] بالعدل والإحسان .
فإن جاز للرافضي أن يقول : إن هذا كان طالبا [37] للمال [38] والرياسة ، أمكن الناصبي أن يقول : كان علي ظالما طالبا للمال والرياسة ، قاتل على الولاية حتى قتل المسلمين بعضهم بعضا ، ولم يقاتل كافرا ، ولم يحصل للمسلمين في مدة ولايته إلا شر وفتنة في دينهم ودنياهم .
فإن جاز أن يقال : علي كان مريدا لوجه الله ، والتقصير من غيره من الصحابة ، أو يقال : كان مجتهدا مصيبا وغيره مخطئا مع هذه [39] الحال ، فأن [40] يقال : كان أبو بكر وعمر مريدين وجه الله مصيبين ، والرافضة مقصرون في معرفة حقهم مخطئون في ذمهم بطريق الأولى [ والأحرى ] [41] ، فإن أبا بكر وعمر كان بعدهما عن شبهة طلب الرياسة والمال أشد من بعد علي عن ذلك ، وشبهة الخوارج الذين ذموا عليا وعثمان وكفروهما أقرب من شبهة الرافضة الذين ذموا أبا بكر وعمر
[ ص: 61 ] وعثمان وكفروهم [42] ، فكيف بحال الصحابة [ والتابعين ] [43] الذين تخلفوا عن بيعته أو قاتلوه ؟ فشبهتهم أقوى من شبهة من قدح في أبي بكر وعمر وعثمان ، فإن أولئك قالوا : ما يمكننا أن نبايع إلا من يعدل علينا [44] ويمنعنا ممن يظلمنا ويأخذ حقنا ممن ظلمنا ، فإذا لم يفعل هذا كان عاجزا أو ظالما وليس علينا أن نبايع عاجزا أو ظالما [45] .
وهذا الكلام إذا كان باطلا ، فبطلان قول من يقول : إن أبا بكر وعمر كانا ظالمين طالبين للمال والرياسة [46] أبطل وأبطل . وهذا الأمر لا يستريب فيه من له بصر ومعرفة ، وأين [47] شبهة مثل أبي موسى الأشعري ( * الذي وافق عمرا [48] على عزل علي ومعاوية ، وأن يجعل الأمر شورى في المسلمين * ) [49] من شبهة عبد الله بن سبأ [50] وأمثاله الذين يدعون أنه إمام معصوم ، أو أنه إله أو نبي [51] ؟ بل أين شبهة الذين رأوا أن يولوا معاوية من شبهة الذين يدعون أنه إله أو نبي ؟ فإن هؤلاء كفار باتفاق المسلمين بخلاف أولئك .
[ ص: 62 ] ومما يبين هذا أن الرافضة تعجز عن إثبات إيمان علي وعدالته [ مع كونهم على مذهب الرافضة ، ولا يمكنهم ذلك إلا إذا صاروا من أهل السنة ] [52] ، فإذا قالت لهم الخوارج وغيرهم ممن تكفره أو تفسقه : لا نسلم أنه كان مؤمنا ، بل كان كافرا أو ظالما - كما يقولون [ هم ] [53] في أبي بكر وعمر - لم يكن لهم دليل على إيمانه وعدله [54] إلا وذلك [55] الدليل على إيمان [56] أبي بكر وعمر وعثمان أدل .
فإن احتجوا بما تواتر من إسلامه وهجرته وجهاده ، فقد تواتر ذلك عن هؤلاء ، بل تواتر إسلام معاوية ويزيد وخلفاء بني أمية وبني العباس ، وصلاتهم وصيامهم وجهادهم للكفار ، فإن ادعوا في واحد من هؤلاء النفاق أمكن الخارجي أن يدعي النفاق ، وإذا ذكروا شبهة ذكر ما هو أعظم منها .
وإذا قالوا ما تقوله أهل الفرية من أن أبا بكر وعمر كانا منافقين في الباطن عدوين للنبي - صلى الله عليه وسلم - أفسدا دينه بحسب الإمكان ، أمكن الخارجي أن يقول ذلك في ( * علي ، ويوجه ذلك بأن يقول : كان يحسد ابن عمه ، والعداوة [57] في الأهل ، وأنه كان يريد فساد دينه فلم [ ص: 63 ] يتمكن من ذلك في * ) [58] حياته وحياة الخلفاء الثلاثة ; حتى سعى في قتل الخليفة الثالث وأوقد الفتنة حتى تمكن من [59] قتل أصحاب محمد وأمته بغضا له وعداوة ، وأنه كان مباطنا للمنافقين الذين ادعوا فيه الإلهية والنبوة ، وكان يظهر [60] خلاف ما يبطن ; لأن دينه التقية ، فلما أحرقهم بالنار أظهر إنكار ذلك ، وإلا فكان في الباطن معهم ، ولهذا كانت الباطنية من أتباعه وعندهم سره ، وهم ينقلون عنه الباطن الذين ينتحلونه .
ويقول الخارجي مثل هذا الكلام الذي يروج على كثير من الناس أعظم [61] مما يروج كلام الرافضة في الخلفاء الثلاثة ; لأن شبه [62] الرافضة أظهر فسادا من شبه [63] الخوارج والنواصب [64] ، والخوارج [65] أصح منهم عقلا وقصدا ، والرافضة أكذب وأفسد دينا .
وإن أرادوا إثبات إيمانه وعدالته بنص [66] القرآن عليه ، قيل لهم [67] : القرآن عام ، وتناوله له ليس بأعظم [68] من تناوله لغيره ، ( * وما من آية يدعون اختصاصها به إلا أمكن أن يدعى اختصاصها [ ص: 64 ] أو اختصاص مثلها أو أعظم منها بأبي بكر وعمر ، فباب الدعوى بلا حجة ممكنة ، والدعوى في فضل الشيخين أمكن منها * ) [69] في فضل غيرهما .
وإن قالوا : ثبت [70] ذلك بالنقل والرواية ; فالنقل والرواية في أولئك أشهر وأكثر [71] ; فإن ادعوا تواترا فالتواتر هناك أصح ، وإن اعتمدوا على نقل الصحابة فنقلهم لفضائل أبي بكر وعمر أكثر .
ثم هم يقولون : إن الصحابة ارتدوا إلا نفرا قليلا ، فكيف تقبل رواية هؤلاء في فضيلة أحد ؟ ولم يكن في الصحابة رافضة كثيرون يتواتر نقلهم ، فطريق النقل مقطوع عليهم إن لم يسلكوا طريق ( * أهل السنة ، كما هو مقطوع على النصارى في إثبات نبوة المسيح إن لم يسلكوا طريق * ) [72] المسلمين .
وهذا كمن أراد أن يثبت فقه ابن عباس دون علي ، أو فقه ابن عمر دون أبيه ، أو فقه علقمة والأسود [73] دون ابن مسعود ، ونحو ذلك من الأمور التي يثبت فيها للشيء حكم دون ما هو أولى [74] بذلك الحكم منه ، فإن هذا تناقض ممتنع عند من سلك طريق العلم والعدل .
[ ص: 65 ] ولهذا كانت الرافضة من أجهل الناس وأضلهم [75] ، كما أن النصارى من أجهل الناس ، والرافضة من أخبث الناس ، كما أن اليهود من أخبث الناس ، ففيهم نوع من ضلال النصارى ، ونوع من خبث اليهود .


