والذين نقلوا مصرع الحسين زادوا أشياء من الكذب ، كما زادوا في قتل عثمان ، وكما زادوا فيما يراد تعظيمه من الحوادث ، وكما زادوا في المغازي والفتوحات وغير ذلك . والمصنفون في أخبار قتل الحسين منهم من هو من أهل العلم ، كالبغوي وابن أبي الدنيا وغيرهما ، ومع ذلك فيما يروونه آثار منقطعة وأمور باطلة . وأما ما يرويه المصنفون في المصرع بلا إسناد ، فالكذب فيه كثير ، والذي ثبت في الصحيح أن الحسين لما قتل حمل رأسه إلى قدام عبيد الله بن زياد ، وأنه نكت بالقضيب على ثناياه ، وكان بالمجلس أنس بن مالك - رضي الله عنه - وأبو برزة الأسلمي .
ففي صحيح البخاري عن محمد بن سيرين ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين فجعل في طست
[1] فجعل ينكت ، وقال في حسنه شيئا ، فقال أنس : كان أشبههم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان مخضوبا بالوسمة
[2] .
وفيه أيضا عن ابن أبي نعم
[3] ، قال : سمعت ابن عمر ، وسأله رجل [ ص: 557 ] عن المحرم يقتل الذباب ، فقال : يا أهل العراق تسألوني عن قتل الذباب ، وقد قتلتم ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " هما ريحانتاي من الدنيا "
[4] .
وقد روي بإسناد مجهول أن هذا كان قدام يزيد ، وأن الرأس حمل إليه
[5] ، وأنه هو الذي نكت على ثناياه . وهذا مع أنه لم يثبت ففي الحديث ما يدل على أنه كذب ، فإن الذين حضروا نكته بالقضيب من الصحابة لم يكونوا بالشام وإنما كانوا بالعراق . والذي نقله غير واحد أن يزيد لم يأمر بقتل الحسين ، ولا كان له غرض في ذلك ، بل كان يختار أن يكرمه ويعظمه ، كما أمره بذلك معاوية - رضي الله عنه - . ولكن كان يختار أن يمتنع من الولاية والخروج عليه ، فلما قدم الحسين وعلم أن أهل العراق يخذلونه ويسلمونه ، طلب أن يرجع إلى يزيد ، أو يرجع إلى وطنه ، أو يذهب إلى الثغر ، فمنعوه من ذلك حتى يستأسر ، فقاتلوه حتى قتل مظلوما شهيدا - رضي الله عنه - وأن خبر قتله لما بلغ يزيد وأهله ساءهم ذلك ، وبكوا على قتله ، وقال يزيد : لعن الله ابن مرجانة - يعني عبيد الله بن زياد - [ أما ] والله [ ص: 558 ] لو كان
[6] بينه وبين الحسين رحم لما قتله . وقال : قد كنت أرضى من طاعة أهل العراق بدون قتل الحسين . وأنه جهز أهله بأحسن الجهاز وأرسلهم إلى المدينة ، لكنه مع ذلك ما انتصر للحسين ، ولا أمر بقتل قاتله ، ولا أخذ بثأره .
وأما ما ذكره من سبي نسائه [ والذراري ]
[7] ، والدوران بهم في البلاد
[8] ، وحملهم على الجمال بغير أقتاب ، فهذا كذب وباطل : ما سبى المسلمون - ولله الحمد - هاشمية قط ، ولا استحلت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - سبي بني هاشم قط ، ولكن أهل الهوى والجهل يكذبون كثيرا ، كما تقول طائفة منهم : إن الحجاج قتل الأشراف ، يعنون بني هاشم .
وبعض الوعاظ وقع بينه وبين بعض من كانوا يدعون أنهم علويون ، ونسبهم مطعون فيه ، فقال على منبره : إن الحجاج قتل الأشراف كلهم ، فلم يبق لنسائهم رجل ، فمكنوا منهن
[9] رجالا ، فهؤلاء من أولاد أولئك . وهذا كله كذب ; فإن الحجاج لم يقتل من بني هاشم أحدا قط ، مع كثرة قتله لغيرهم . فإن عبد الملك أرسل إليه يقول له : إياك وبني هاشم أن تتعرض لهم ، فقد رأيت بني حرب لما تعرضوا للحسين أصابهم ما أصابهم . أو كما قال [10] . ولكن قتل الحجاج كثيرا من أشراف العرب ، أي [ ص: 559 ] سادات العرب . ولما سمع الجاهل أنه قتل الأشراف - وفي لغته أن الأشراف هم
[11] الهاشميون أو بعض الهاشميين ، ففي بعض البلاد أن الأشراف عندهم ولد العباس ، وفي بعضها الأشراف عندهم ولد علي .
ولفظ " الأشراف " لا يتعلق به حكم شرعي ، وإنما الحكم يتعلق ببني هاشم ، كتحريم الصدقة ، وأنهم آل محمد - صلى الله عليه وسلم - وغير ذلك .
والحجاج كان قد تزوج ببنت عبد الله بن جعفر ، فلم يرض بذلك بنو أمية حتى نزعوها منه ، لأنهم معظمون لبني هاشم .
وفي الجملة فما يعرف في الإسلام أن المسلمين سبوا امرأة يعرفون أنها هاشمية ، ولا سبي عيال الحسين ، بل لما دخلوا إلى بيت يزيد
[12] قامت النياحة في بيته ، [ وأكرمهم ]
[13] وخيرهم بين المقام عنده والذهاب إلى المدينة ، فاختاروا الرجوع إلى المدينة ، ولا طيف برأس الحسين . وهذه الحوادث فيها من الأكاذيب
[14] ما ليس هذا موضع بسطه .
وأما ما ذكره من الأحداث والعقوبات الحاصلة بقتل الحسين ; فلا ريب أن قتل الحسين من أعظم الذنوب ، وأن فاعل ذلك والراضي به والمعين عليه مستحق لعقاب الله الذي يستحقه أمثاله ، لكن قتله ليس بأعظم من قتل من هو أفضل منه من النبيين ، والسابقين الأولين ، ومن قتل في حرب مسيلمة ، وكشهداء أحد ، والذين قتلوا ببئر معونة ، وكقتل عثمان ، وقتل [ ص: 560 ] علي ، لا سيما والذين قتلوا أباه عليا كانوا يعتقدونه كافرا مرتدا ، وأن قتله من أعظم القربات ، بخلاف الذين قتلوا الحسين ; فإنهم لم يكونوا يعتقدون
[15] كفره ، وكان كثير منهم - أو أكثرهم - يكرهون قتله ، ويرونه ذنبا عظيما ، لكن قتلوه لغرضهم ، كما يقتل الناس بعضهم بعضا على الملك .
وبهذا وغيره يتبين أن كثيرا مما روي في ذلك كذب ، مثل كون السماء أمطرت
[16] دما ، [ فإن هذا ما وقع قط في قتل أحد ]
[17] ، ومثل كون الحمرة ظهرت في السماء يوم قتل الحسين ولم تظهر قبل ذلك ; فإن هذا من الترهات ، فما زالت هذه الحمرة تظهر ولها سبب طبيعي من جهة الشمس ، فهي بمنزلة الشفق .
وكذلك قول القائل : " إنه ما رفع حجر في الدنيا إلا وجد تحته دم عبيط " .
هو أيضا كذب بين .
وأما قول الزهري : ما بقي أحد من قتلة الحسين إلا عوقب
[18] في الدنيا .
فهذا ممكن ، وأسرع الذنوب عقوبة البغي ، والبغي على الحسين من أعظم البغي .
وأما قوله : " وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر الوصية للمسلمين في ولديه الحسن والحسين ، ويقول لهم : هؤلاء وديعتي عندكم . وأنزل الله [ ص: 561 ] فيهم : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) [ سورة الشورى : 23 ] .
فالجواب : أما الحسن والحسين فحقهما واجب بلا ريب . و [ قد ثبت ] في الصحيح
[19] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خطب الناس بغدير يدعى خما بين مكة والمدينة فقال : " إني تارك فيكم الثقلين : أحدهما كتاب الله " فذكر كتاب الله وحض عليه ، ثم قال : " وعترتي أهل بيتي . أذكركم الله في أهل بيتي ، [ أذكركم الله في أهل بيتي ] "
[20] .
والحسن والحسين من أعظم أهل بيته اختصاصا به ، كما ثبت في الصحيح أنه أدار كساءه
[21] على علي وفاطمة وحسن وحسين ثم قال : " اللهم هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا "
[22] .
وأما قوله : " إنه كان يكثر الوصية بهما ويقوله لهم
[23] : " هؤلاء وديعتي عندكم "
[24] .
فهذا الحديث لا يعرف في شيء من كتب الحديث التي يعتمد عليها .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم من أن يودع ولديه لمخلوق ، فإن ذلك إن أريد به حفظهما كما يحفظ المال المودع ، فالرجال لا يودعون . وإن كان كما يستودع الرجل أطفاله لمن يحفظهم ويربيهم ، فهما كانا في حضانة أبيهما ، [ ص: 562 ] ثم لما بلغا رفع عنهما [ حجر ]
[25] الحضانة فصار كل منهما في يد نفسه . وإن أريد بذلك أنه أراد أن الأمة تحفظهما وتحرسهما ، فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين ، وكيف يمكن واحد من الأمة أن يدفع عنهما الآفات ؟ .
وإن أراد بذلك المنع من أذاهما بالعدوان عليهما ، ونصرهما ممن يبغي عليهما . فلا ريب أن هذا واجب لمن هو دونهما ، [ فكيف ]
[26] لا يجب لهما ؟ وهذا من حقوق المسلم على المسلم ، وحقهما أوكد من حق غيرهما .
وأما قوله : " وأنزل الله فيهم : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) [ سورة الشورى : 23 ] .
فهذا كذب ظاهر
[27] ; فإن هذه الآية في سورة الشورى ، وسورة [ الشورى ] مكية
[28] بلا ريب نزلت قبل أن يتزوج علي بفاطمة - رضي الله عنهما - وقبل أن يولد [ له ]
[29] الحسن والحسين ; فإن عليا إنما تزوج فاطمة
[30] بالمدينة بعد الهجرة في العام الثاني ، ولم يدخل بها إلا بعد غزوة بدر ، وكانت بدر في شهر رمضان سنة اثنتين . وقد تقدم الكلام على الآية [ الكريمة ]
[31] ، وأن المراد بها ما بينه ابن عباس - رضي الله عنهما - من أنه لم [ ص: 563 ] تكن قبيلة من قريش
[32] إلا وبينها وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرابة ، فقال : " لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى : إلا أن تودوني
[33] في القرابة التي بيني وبينكم " رواه البخاري وغيره
[34] .
وقد ذكر طائفة من المصنفين من أهل السنة والجماعة والشيعة ، من أصحاب أحمد وغيرهم ، حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذه الآية لما نزلت قالوا : يا رسول الله من هؤلاء ؟ قال علي وفاطمة وابناهما . وهذا كذب باتفاق أهل المعرفة [ بالحديث ]
[35] .
[ ومما يبين ذلك أن هذه الآية نزلت بمكة باتفاق أهل العلم ]
[36] ; فإن سورة الشورى جميعها مكية ، بل جميع آل حم كلهن مكيات ، وعلي لم يتزوج فاطمة إلا بالمدينة كما تقدم ، ولم يولد له الحسن والحسين إلا في السنة الثالثة والرابعة من الهجرة ، فكيف يمكن أنها لما نزلت بمكة قالوا : يا رسول الله من هؤلاء ؟ قال : علي وفاطمة وابناهما .
قال الحافظ عبد الغني المقدسي : " ولد الحسن سنة ثلاث من الهجرة في النصف من شهر رمضان . هذا أصح ما قيل فيه . وولد الحسين لخمس خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة " . قال : " وقيل سنة ثلاث " .
قلت : ومن قال هذا يقول : إن الحسن ولد سنة اثنتين
[37] ، وهذا [ ص: 564 ] ضعيف ; فقد ثبت في الصحيح أن عليا لم يدخل بفاطمة - رضي الله عنهما - إلا بعد غزوة بدر
[38] .


