والإنسان قد يكون في قلبه معارف وإرادات ، ولا يدري أنها في قلبه ، فوجود الشيء في القلب شيء ، والدراية به شيء آخر ; ولهذا يوجد الواحد من هؤلاء يطلب تحصيل ذلك في قلبه ، وهو حاصل في قلبه ، فتراه يتعب تعبا كثيرا لجهله ، وهذا كالموسوس [1] في الصلاة ; فإن كل من فعل فعلا باختياره ، وهو يعلم ما يفعله [2] ، فلا بد أن ينويه ، ووجود ذلك بدون النية - التي هي الإرادة - ممتنع ، فمن كان يعلم أنه يقوم إلى الصلاة فهو يريد الصلاة ، ولا يتصور أن يصلي إلا وهو يريد الصلاة [3] ،  [ ص: 399 ] فطلب مثل هذا لتحصيل النية من جهله بحقيقة النية ووجودها في نفسه . 
وكذلك من كان يعلم أن غدا من رمضان ، وهو مسلم يعتقد وجوب الصوم ، وهو مريد للصوم [4] ، فهذا نية الصوم . وهو حين يتعشى يتعشى عشاء من يريد الصوم ، ولهذا يفرق بين عشاء ليلة العيد ، وعشاء ليالي شهر رمضان ، فليلة العيد يعلم أنه لا يصوم ، فلا يريد الصوم ولا ينويه ، ولا يتعشى عشاء من يريد الصوم . 
وهذا مثل الذي يأكل ويشرب ، ويمشي ويركب ، ويلبس ، إذا كان يعلم أنه يفعل هذه الأفعال ، فلا بد أن يريدها ، وهذه نيتها ، فلو قال بلسانه : أريد أن أضع يدي في هذا الإناء لآخذ لقمة آكلها ، كان أحمق عند الناس . فهكذا من يتكلم بمثل هذه الألفاظ في نية الصلاة والطهارة والصيام [5]  . ومع هذا فتجد خلقا كثيرا من الموسوسين بعلم وعبادة يجتهد في تحصيل هذه النية أعظم مما يجتهد من يستخرج ما في قعر معدته من القيء ، أو من يبتلع الأدوية الكريهة . 
وكذلك كثير من المعارف ، قد يكون في نفس الإنسان ضروريا وفطريا ، وهو يطلب الدليل عليه ; لإعراضه عما في نفسه ، وعدم شعوره بشعوره . 
فهكذا كثير من المؤمنين يكون في قلبه محبة لله ورسوله ، وقد نظر في كلام الجهمية  والمعتزلة  نفاة المحبة ، واعتقد ذلك قولا صحيحا ; لما ظنه من صحة شبهاتهم ، أو تقليدا لهم ، فصار يقول بموجب ذلك الاعتقاد ،  [ ص: 400 ] وينكر ما في نفسه . 
فإن نافي محبة الله يقول : المحبة لا تكون إلا لما يناسب المحبوب ، ولا مناسبة بين القديم والمحدث ، وبين الواجب والممكن ، وبين الخالق والمخلوق . 
فيقال : لفظ المناسبة لفظ مجمل ، فإنه يقال : لا مناسبة بين كذا وكذا ، أي أحدهما أعظم من الآخر ، فلا ينسب هذا إلى هذا . كما يقال : لا نسبة لمال فلان إلى مال فلان ، ولا نسبة لعلمه أو جوده أو ملكه [ إلى علم فلان وجود فلان وملك فلان ، ] [6] يراد به أن هذه النسبة حقيرة صغيرة كلا نسبة ، كما يقال : لا نسبة للخردلة إلى الجبل ، ولا نسبة للتراب إلى رب الأرباب . 
فإذا أريد بأنه لا نسبة للمحدث إلى القديم هذا المعنى ونحوه ، فهو صحيح ، وليست المحبة مستلزمة لهذه النسبة ، وإن أريد أن ليس في القديم معنى يحبه لأجله المحدث ، فهذا رأس المسألة ، فلم قلت : إنه ليس بين المحدث والقديم ما يحب المحدث القديم لأجله ؟ ولم قلت : إن القديم ليس متصفا بمحبة ما يحبه من مخلوقاته ؟ 
والمحبة لا تستلزم نقصا ، بل هي صفة كمال  ، بل هي أصل الإرادة . فكل إرادة فلا بد أن تستلزم محبة ؛ فإن الشيء إنما يراد ; لأنه محبوب ، أو لأنه وسيلة إلى المحبوب . ولو قدر عدم المحبة لامتنعت الإرادة ; فإن المحبة لازمة للإرادة ، فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم ، وكذلك المحبة  [ ص: 401 ] مستلزمة للإرادة ، فمن أحب شيئا فلا بد أن يتضمن حبه إياه ، إرادة لبعض متعلقاته . 
ولهذا كان خلقه تعالى لمخلوقاته لحكمة [7] ، والحكمة مرادة محبوبة . فهو خلق ما خلق لمراد محبوب كما تقدم ، وهو سبحانه يحب عباده المؤمنين ، فيريد الإحسان إليهم ، وهم يحبونه فيريدون عبادته [8]  [ وطاعته ] . 
و [ قد ثبت ] في الصحيحين [9] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين  " [10] وما من مؤمن إلا وهو يجد في قلبه للرسول من المحبة ما لا يجد [11] لغيره  ، حتى أنه إذا سمع محبوبا له - من أقاربه وأصدقائه [12]  - يسب الرسول ، هان عليه عداوته ومهاجرته ، بل وقتله لحب الرسول ، وإن لم يفعل ذلك لم يكن مؤمنا . 
قال تعالى : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه   ) [ سورة المجادلة : 22 ] ، [ بل قد ] . 
 [ ص: 402 ] قال تعالى [13]  : ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره   ) [ سورة التوبة : 24 ] ، فتوعد من كان الأهل والمال أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله . 
وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ثلاث من كن فيه وجد بهن [14] حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار  " [15]  . 
فوجود حلاوة الإيمان في القلب لا تكون من محبة العوض الذي لم يحصل بعد ، بل الفاعل الذي لا يعمل إلا للكراء لا يجد حال العمل إلا التعب والمشقة وما يؤلمه ، فلو كان لا معنى لمحبة الله ورسوله إلا محبة  [ ص: 403 ] ما سيصير إليه العبد من الأجر ، لم يكن هنا حلاوة إيمان يجدها العبد في قلبه وهو في دار التكليف والامتحان ، وهذا خلاف الشرع وخلاف الفطرة التي فطر الله عليها قلوب عباده . 
فقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " كل مولود يولد على الفطرة  " [16] وفي صحيح  مسلم  عنه أنه قال : " يقول الله تعالى : خلقت عبادي حنفاء ، فاجتالتهم الشياطين ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا  " [17]  . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					