ورسالة عمر المشهورة في القضاء إلى أبي موسى الأشعري تداولها الفقهاء ، وبنوا عليها واعتمدوا على ما فيها من الفقه وأصول الفقه ، ومن طرقها ما رواه أبو عبيد وابن بطة وغيرهما بالإسناد الثابت عن كثير بن هشام ، عن جعفر بن برقان ، قال [1] : كتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى أبي موسى الأشعري : " أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة ، وسنة متبعة ، فافهم إذا أدلي إليك [2] ، فإنه لا ينفع تكلم بحق [3] لا نفاذ [ ص: 72 ] له [4] ، آس [5] بين الناس في مجلسك ووجهك وقضائك [6] ، حتى لا يطمع شريف في حيفك ، ولا ييأس ضعيف من عدلك [7] البينة على من ادعى [8] ، واليمين على من أنكر ، والصلح جائز بين المسلمين ، إلا صلحا أحل حراما ، أو حرم حلالا ، ومن ادعى حقا غائبا فامدد له أمدا ينتهي إليه ، فإن جاء ببينة فأعطه حقه ، وإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية ، فإن ذلك هو أبلغ في العذر ، وأجلى للعمى [9] . ولا يمنعك قضاء قضيته اليوم [10] فراجعت فيه رأيك [11] فهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق [12] ، فإن الحق قديم ، وليس يبطله شيء [13] ، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل [14] . والمسلمون عدول بعضهم [15] ؛ على بعض ، إلا مجربا عليه شهادة زور ، أو مجلودا في حد ، أو ظنينا في ولاء أو نسب [16] [ ص: 73 ] فإن الله تولى من العباد السرائر ، وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان [17] . ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك وفيما ورد [18] عليك ، مما ليس في قرآن ولا سنة [19] ، ثم قايس الأمور عند ذلك ، ثم اعرف الأمثال [20] ، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق [21] ، وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالخصوم ؛ فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب [ الله ] به الأجر ، ويحسن به الذخر [22] ، فمن خلصت نيته في الحق ، ولو على نفسه ، كفاه الله ما بينه وبين الناس [23] ، ومن تزين بما ليس في نفسه شانه الله - عز وجل - [24] ؛ [25] فإن الله - عز وجل - لا [ ص: 74 ] يقبل من العبد إلا ما كان له خالصا ، فما ظنك بثواب [26] عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته " [27] .
وروى ابن بطة من حديث أبي يعلى الناجي ، حدثنا العتبي ، عن أبيه قال : خطب عمر بن الخطاب يوم عرفة يوم بويع له فقال [28] : " الحمد لله الذي ابتلاني بكم ، وابتلاكم بي ، وأبقاني فيكم من بعد صاحبي ، من كان منكم شاهدا باشرناه ، ومن كان غائبا ولينا أمره أهل القوة عندنا ، فإن أحسن زدناه ، وإن أساء لم نناظره ، أيتها الرعية إن للولاة عليكم حقا ، وإن لكم عليهم حقا ، واعلموا [29] أنه ليس حلم [30] أحب إلى الله وأعظم نفعا من حلم [31] إمام وعدله ، وليس جهل أبغض إلى الله - تعالى - من جهل وال وخرقه ، وأنه من يأخذ العافية ممن تحت يده يعطه الله العافية ممن هو فوقه " .
قلت : وهو معروف من حديث الأحنف عن عمر ، قال : الوالي إذا طلب العافية ممن هو دونه أعطاه الله العافية ممن هو فوقه .
وروي من حديث وكيع ، عن الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن [ ص: 75 ] يحيى بن جعدة [32] ، قال : قال عمر - رضي الله عنه - : " لولا ثلاث لأحببت أن أكون قد لحقت بالله ، لولا أن أسير في سبيل الله ، أو أضع جبهتي في التراب ساجدا ، أو أجالس قوما يلتقطون طيب الكلام كما يلتقط طيب الثمر " [33] .
وكلام عمر - رضي الله عنه - من أجمع الكلام [ وأكمله ، فإنه ملهم ] [34] محدث ، كل كلمة من كلامه تجمع علما كثيرا ، مثل هؤلاء الثلاث التي ذكرهن [35] ؛ فإنه ذكر الصلاة والجهاد والعلم ، وهذه الثلاث هي أفضل الأعمال بإجماع الأمة ، قال أحمد بن حنبل : أفضل ما تطوع به الإنسان الجهاد ، وقال الشافعي : أفضل ما تطوع به الصلاة . وقال أبو حنيفة ومالك : العلم .
والتحقيق أن كلا من الثلاثة لا بد له من الآخرين ، وقد يكون هذا أفضل في حال ، وهذا أفضل في حال ، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه يفعلون هذا وهذا وهذا ، كل في موضعه بحسب الحاجة والمصلحة ، وعمر جمع الثلاث .
ومن حديث محمد بن إسحاق عن الزهري ، عن عبيد الله بن [ ص: 76 ] عبد الله ، عن ابن عباس قال : قال لي عمر : إنه والله يا ابن عباس ما يصلح لهذا الأمر إلا القوي في غير عنف ، اللين في غير ضعف ، الجواد في [36] غير سرف ، الممسك في غير بخل ، قال : يقول ابن عباس : فوالله ما أعرفه غير عمر .
وعن صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه ، أنه كان إذا ذكر عمر قال : لله در عمر ، لقل ما سمعته يقول ، يحرك شفتيه بشيء قط يتخوفه إلا كان حقا .


