فصل [1]
قال الرافضي [2] : " وقال بالرأي والحدس والظن " .
والجواب : أن القول بالرأي لم يختص به عمر - رضي الله عنه ، بل علي كان من أقولهم بالرأي ، وكذلك أبو بكر وعثمان وزيد وابن مسعود وغيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يقولون بالرأي ، وكان رأي علي في دماء أهل القبلة ونحوه من الأمور العظائم .
كما في سنن أبي داود [3] وغيره عن الحسن ، عن قيس بن عباد [4] قال : قلت لعلي : أخبرنا عن مسيرك هذا ، أعهد عهده إليك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم رأي رأيته ؟ قال : ما عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلي شيئا [5] ولكنه رأي رأيته ، وهذا أمر ثابت ، ولهذا لم يرو علي [ ص: 112 ] - رضي الله عنه - في قتال الجمل وصفين شيئا ، كما رواه في قتال الخوارج ، بل روى الأحاديث الصحيحة هو وغيره من الصحابة في قتال الخوارج المارقين ، وأما قتال الجمل وصفين فلم يرو أحد منهم فيه نصا إلا القاعدون ؛ فإنهم رووا الأحاديث في ترك القتال في الفتنة .
وأما الحديث الذي يروى أنه أمر بقتل [6] الناكثين والقاسطين والمارقين فهو حديث موضوع على النبي - صلى الله عليه وسلم - [7] .
ومعلوم أن الرأي إن لم يكن مذموما فلا لوم على من قال به [8] ، وإن كان مذموما فلا رأي أعظم ذما من رأي أريق به دم ألوف مؤلفة من [ ص: 113 ] المسلمين ، ولم يحصل بقتلهم مصلحة للمسلمين ، لا في دينهم ولا في دنياهم ، بل نقص الخير عما كان ، وزاد الشر على ما كان .
فإذا كان مثل هذا الرأي لا يعاب [9] به ، فرأي عمر وغيره في مسائل الفرائض والطلاق أولى أن لا يعاب [10] . مع أن عليا شركهم في هذا الرأي ، وامتاز برأيه في الدماء .
وقد كان ابنه الحسن وأكثر السابقين الأولين لا يرون القتال مصلحة ، وكان هذا الرأي أصلح [11] من رأي القتال بالدلائل الكثيرة .
ومن المعلوم أن قول علي في الجد وغيره من المسائل كان بالرأي ، وقد قال : اجتمع رأيي ورأي عمر على المنع من بيع أمهات الأولاد ، والآن فقد رأيت أن يبعن ، فقال له قاضيه عبيدة السلماني : رأيك مع رأي عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة .
وفي صحيح البخاري عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، عن علي قال : " اقضوا كما كنتم تقضون ، فإني أكره الاختلاف ، حتى يكون للناس جماعة ، أو أموت كما مات أصحابي " ، قال : وكان ابن سيرين يرى أن عامة ما يروى عن علي كذب [12] .
وقد جمع الشافعي ومحمد بن نصر المروزي المسائل التي تركت من قول علي وابن مسعود ، فبلغت شيئا كثيرا ، وكثير منها قد جاءت السنة بخلافه ، كالمتوفى عنها الحامل ، فإن مذهب علي - رضي الله عنه - أنها [ ص: 114 ] تعتد أبعد الأجلين ، وبذلك أفتى أبو السنابل بن بعكك في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم ، فلما جاءته سبيعة الأسلمية وذكرت ذلك له ، قال : " كذب أبو السنابل ، بل حللت فانكحي من شئت " [13] . وكان زوجها قد توفي عنها بمكة في حجة الوداع .
فإن كان القول بالرأي ذنبا ، فذنب غير عمر - كعلي وغيره - أعظم ، فإن ذنب من استحل دماء المسلمين برأي ، هو ذنب أعظم من ذنب من حكم في قضية جزئية برأيه ، وإن كان منه ما هو صواب ومنه ما هو خطأ ، فعمر - رضي الله عنه - أسعد بالصواب من غيره ، فإن الصواب في رأيه أكثر منه في رأي غيره ، والخطأ في رأي غيره أكثر منه في رأيه ، وإن كان الرأي كله صوابا ، فالصواب [14] الذي مصلحته أعظم هو خير وأفضل من الصواب الذي مصلحته دون ذلك ، وآراء عمر - رضي الله عنه - كانت مصالحها أعظم للمسلمين .
فعلى كل تقدير عمر فوق القائلين بالرأي من الصحابة فيما يحمد ، وهو أخف منهم فيما يذم ، ومما يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " قد كان في الأمم قبلكم محدثون ، فإن يكن في أمتي أحد فعمر " [15] .
ومعلوم أن رأي المحدث الملهم أفضل من رأي من ليس كذلك ، وليس فوقه إلا النص الذي هو حال الصديق المتلقي من الرسول ، ونحن نسلم أن الصديق أفضل من عمر ، لكن عمر أفضل من سائرهم .
[ ص: 115 ] وفي المسند وغيره أن الله - تعالى - : " ضرب الحق على لسان عمر وقلبه " [16] . وقال عبد الله بن عمر : ما سمعت عمر يقول لشيء إني لأراه كذا وكذا إلا كان كما يقول . [17]
فالنصوص والإجماع والاعتبار يدل على أن رأي عمر أولى بالصواب من رأي عثمان وعلي وطلحة والزبير ، وغيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم ، ولهذا كانت آثار رأيه محمودة ، فيها صلاح [18] الدين والدنيا ، فهو الذي فتح بلاد فارس والروم ، وأعز الله به الإسلام ، وأذل به الكفر والنفاق ، وهو الذي وضع الديوان ، وفرض العطاء ، وألزم أهل الذمة بالصغار والغيار ، وقمع الفجار ، وقوم العمال ، وكان الإسلام في زمنه أعز ما كان .
وما يتمارى في كمال سيرة عمر وعلمه وعدله وفضله من له أدنى مسكة من عقل وإنصاف ، ولا يطعن على أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - إلا أحد رجلين : إما رجل منافق زنديق ملحد عدو للإسلام ، يتوصل بالطعن فيهما إلى الطعن في الرسول ودين الإسلام ، وهذا حال المعلم الأول للرافضة ، أول من ابتدع الرفض ، وحال أئمة الباطنية ، وإما جاهل مفرط في الجهل والهوى ، وهو الغالب على عامة الشيعة ، إذا كانوا مسلمين في الباطن .
وإذا قال الرافضي : علي كان معصوما لا يقول برأيه ، بل كل ما قاله فهو مثل نص الرسول ، وهو الإمام المعصوم المنصوص على إمامته من جهة الرسول .
[ ص: 116 ] قيل له : نظيرك في البدعة الخوارج ، كلهم يكفرون عليا ، مع أنهم أعلم وأصدق وأدين من الرافضة ، لا يستريب في هذا كل من عرف حال هؤلاء وهؤلاء .
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال فيهم : " يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، وقراءته مع قراءتهم " [19]
وقد قاتلوه في حياته ، وقتله واحد منهم ، ولهم جيوش وعلماء ومدائن ، وأهل السنة - ولله الحمد - متفقون على أنهم مبتدعة ضالون ، وأنه يجب قتالهم بالنصوص الصحيحة ، وأن أمير المؤمنين عليا - رضي الله عنه - كان من أفضل أعماله قتاله الخوارج .
وقد اتفقت الصحابة على قتالهم ، ولا خلاف بين علماء السنة أنهم يقاتلون مع أئمة العدل ، مثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لكن هل يقاتلون مع أئمة الجور ؟ فنقل عن مالك أنهم لا يقاتلون ، [20] وكذلك قال فيمن نقض العهد من أهل الذمة : لا يقاتلون مع أئمة الجور ، ونقل عنه أنه قال ذلك في الكفار ، وهذا منقول عن مالك وبعض أصحابه ، ونقل عنه خلاف ذلك ، وهو قول الجمهور ، وأكثر أصحابه [21] خالفوه في ذلك ، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد ، وقالوا : يغزى مع كل أمير برا كان أو فاجرا إذا كان الغزو الذي يفعله [ ص: 117 ] جائزا ، فإذا قاتل الكفار أو المرتدين أو ناقضي العهد أو الخوارج قتالا مشروعا قوتل معه ، وإن قاتل قتالا غير جائز لم يقاتل معه ، فيعاون على البر والتقوى ، ولا يعاون على الإثم والعدوان ، كما أن الرجل يسافر مع من يحج ويعتمر ، وإن كان في القافلة من هو ظالم .
فالظالم لا يجوز أن يعاون على الظلم ، لأن الله - تعالى - يقول : ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) [ سورة المائدة : 2 ] .
وقال موسى : ( رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين ) [ سورة القصص : 17 ] .
وقال - تعالى - : ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ) [ سورة هود : 113 ] .
وقال - تعالى - : ( من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها ) [ سورة النساء : 85 ] .
والشفيع : المعين ، فكل من أعان شخصا على أمر فقد شفعه فيه ، فلا يجوز أن يعان أحد : لا ولي أمر ولا غيره على ما حرمه الله ورسوله ، وأما إذا كان للرجل ذنوب ، وقد فعل برا ، فهذا إذا أعين على البر ، لم يكن هذا محرما ، كما لو أراد مذنب أن يؤدي زكاته ، أو يحج ، أو يقضي ديونه ، أو يرد بعض ما عنده من المظالم ، أو يوصي على بناته - فهذا إذا أعين عليه فهو إعانة على بر وتقوى ، ليس إعانة على إثم وعدوان ، فكيف الأمور العامة ؟
[ ص: 118 ] والجهاد لا يقوم به إلا ولاة الأمور ، فإن لم يغز معهم ، لزم أن أهل الخير الأبرار لا يجاهدون ، فتفتر عزمات أهل الدين عن الجهاد ، فإما أن يتعطل ، وإما أن ينفرد به الفجار ، فيلزم من ذلك استيلاء الكفار ، أو ظهور الفجار ، لأن الدين لمن قاتل عليه .
وهذا الرأي من أفسد الآراء ، وهو رأي أهل البدع من الرافضة والمعتزلة وغيرهم ، حتى قيل لبعض شيوخ الرافضة : إذا جاء الكفار إلى بلادنا فقتلوا النفوس وسبوا الحريم وأخذوا الأموال ، هل نقاتلهم ؟ فقال : لا ، المذهب أنا لا نغزو إلا مع المعصوم ، فقال ذلك المستفتي مع عاميته [22] : والله إن هذا لمذهب نجس ، فإن هذا المذهب يفضي إلى فساد الدين والدنيا .
وصاحب هذا القول تورع [23] فيما يظنه ظلما ، فوقع في أضعاف ما تورع [24] عنه بهذا الورع الفاسد ، وأين ظلم بعض ولاة الأمور من استيلاء الكفار ، بل من استيلاء من هو أظلم منه ؟ فالأقل ظلما ينبغي أن يعاون [25] على الأكثر ظلما ؛ فإن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد ، وتقليلها بحسب الإمكان ، ومعرفة خير الخيرين وشر الشرين ، حتى يقدم عند التزاحم [26] خير الخيرين ويدفع شر الشرين .
ومعلوم أن شر الكفار والمرتدين والخوارج أعظم من شر الظالم ، وأما إذا لم يكونوا يظلمون المسلمين ، والمقاتل لهم يريد أن يظلمهم ، فهذا عدوان منه ، فلا يعاون على العدوان .


