وجواب عاشر : وهو أن النص على الجزئيات لا يمكن ، والكليات قد نص [ عليها ] [1] . فلو نص على معين وأمر بطاعته في تعيين الكليات كان هذا باطلا ، وإن أمر بطاعته في الجزئيات ، سواء وافقت الكليات أو خالفتها ، كان هذا باطلا ، وإن أمر بطاعته في الجزئيات إذا طابقت الكليات ، فهذا حكم كل متول .
وأيضا فلو نص على معين لكان من يتولى بعده ، إذا لم يكن منصوصا عليه ، يظن الظان أنه لا تجوز طاعته ، إذ طاعة الأول إنما وجبت بالنص ، ولا نص معه .
وإن قيل : كل واحد ينص على الآخر ، فهذا إنما يكون إذا كان الثاني معصوما .
والعصمة منتفية عن غير الرسول ، وهذا مما يبين أن القول بالنص فرع على القول بالعصمة ، وذلك من أفسد الأقوال .
فكذلك هذا ، أعني النص الذي تدعيه الرافضة [2] ، وهو الأمر بطاعة المتولي في كل ما يقوله ، من غير رد ما يقوله إلى الكتاب والسنة إذا نوزع .
[ ص: 452 ] وأما إذا كان يرد ما تنوزع فيه إلى الكتاب والسنة [3] لم يحتج حينئذ إلى نص عليه لحفظ الدين ، فإن الدين [4] محفوظ بدونه .
وبالجملة فالنص على معين : إن أريد به أنه يطاع كما يطاع الرسول في كل ما يأمر به [5] وينهى عنه ويبيحه ، وليس [6] لأحد أن ( * ينازعه في شيء ، كما ليس [ له ] [7] أن * ) [8] ينازع الرسول ، وأنه يستبد بالأحكام ، والأمة معه كما كانت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا [9] لا يكون لأحد بعد الرسول ، ولا يمكن هذا لغيره ، فإن أحدا بعده لا يأتيه الوحي كما كان يأتيه ، ولم يعرف أحد كل ما عرفه الرسول ، فلم يبق سبيل إلى مماثلته : لا من جهته ، ولا من جهة الرب تعالى .
وإن أريد بالنص أنه يبين للأمة أن هذا أحق بأن يتولى عليكم من غيره ، وولاية هذا أحب إلى الله ورسوله ، وأصلح لكم في دينكم ودنياكم ، ونحو هذا مما يبين أنه أحق بالتقدم في خلافة النبوة - فلا ريب أن النصوص الكثيرة بهذه المعاني دلت على خلافة أبي بكر .
وإن أريد أنه أمرهم أن يتابعوه ، كما أمرهم أبو بكر أن يتابعوا عمر ، ويعهد إليهم في ذلك - فهذا إذا علم أن الأمة [10] تفعله ، كان تركه خيرا [ ص: 453 ] من فعله . وإن خاف أن لا تفعله إلا بأمره ، كان الأمر أولى به .
ولهذا لما خشي عليهم أبو بكر - رضي الله عنه - أن يختلفوا بعده ، عهد إلى عمر ، ولما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم يبايعون أبا بكر لم يأمرهم بذلك [11] .
كما في الصحيحين أنه قال لعائشة : " ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه الناس من بعدي " ثم [ قال ] [12] : " يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر " [13] .
فعلم أن الله لا يولي إلا أبا بكر والمؤمنون لا يبايعون إلا أبا بكر [14] . وكذلك سائر الأحاديث الصحيحة تدل على أنه علم ذلك ، وإنما كان ترك الأمر مع علمه أفضل ، كما فعل [ النبي ] [15] - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن الأمة إذا ولته طوعا منها بغير التزام - وكان هو الذي يرضاه الله ورسوله - كان أفضل للأمة ، ودل على علمها ودينها .
فإنها لو ألزمت بذلك ، لربما قيل : إنها أكرهت على الحق ، وهي لا تختاره ، كما كان يجري [ مثل ] [16] ذلك لبني إسرائيل ، ويظن الظان أنه كان في الأمة بقايا جاهلية من التقدم بالأنساب ، فإنهم كانوا يريدون أن لا يتولى إلا من هو من بني عبد مناف ، كما كان أبو سفيان وغيره [ ص: 454 ] يختارون ذلك . فلو ألزم المهاجرين [17] والأنصار بهذا ، لظن الظان أنهم كانوا من جنس أبي سفيان وأمثاله ، وكانوا يعرفون اختصاص الصديق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أولا وآخرا ، وموافقته له باطنا وظاهرا .
فقد يقول القائل : إنهم كانوا في الباطن كارهين [18] لمن يأمرهم بمثل ما أمرهم به الرسول ، لكن لما ألزمهم بذلك احتاجوا إلى التزامه ، لو لم يقدح فيهم بذلك لم يمدحوا إلا بمجرد الطاعة للأمر ، فإذا كانوا برضاهم واختيارهم اختاروا ما يرضاه [19] الله ورسوله من غير إلزام ، كان ذلك أعظم لقدرهم ، وأعلى لدرجتهم ، وأعظم في مثوبتهم [20] ، وكان ما اختاره الله ورسوله للمؤمنين به هو أفضل الأمور له ولهم .
ألا ترى أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر زيد بن حارثة ، وبعده أسامة [ بن زيد ] [21] ، وطعن بعض الناس في إمارتهما [22] ، واحتاجوا مع ذلك إلى لزوم طاعتهما . فلو ألزمهم بواحد لكان [ يظن ] بهم [23] أن مثل هذا كان [ في ] [24] نفوسهم ، وأنه ليس الصديق [25] عندهم بالمنزلة التي لا يتكلم فيها أحد .
فلما اتفقوا على بيعته ، ولم يقل قط أحد [26] : إني أحق بهذا الأمر منه ، [ ص: 455 ] لا قرشي ولا أنصاري ، فإن من نازع أولا من الأنصار لم تكن منازعته للصديق ، بل طلبوا أن يكون منهم أمير ومن قريش أمير .
وهذه منازعة عامة لقريش ، فلما تبين لهم أن هذا الأمر في قريش قطعوا المنازعة ، وقال لهم الصديق : " رضيت لكم أحد هذين الرجلين : عمر بن الخطاب أو أبا عبيدة بن الجراح [27] " قال عمر : فكنت والله أن أقدم فتضرب عنقي ، لا يقربني ذلك [28] إلى إثم ، أحب إلي من أن أتأمر [29] على قوم فيهم أبو بكر " وقال له بمحضر الباقين : " أنت خيرنا وأفضلنا وأحبنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وقد ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة [30] .
ثم بايعوا أبا بكر من غير طلب منه ولا رغبة بذلت لهم [31] ولا رهبة ، فبايعه الذين بايعوا الرسول تحت الشجرة ، والذين بايعوه ليلة العقبة ، والذين بايعوه لما كانوا يهاجرون إليه ، والذين بايعوه لما كانوا يسلمون من غير هجرة ، كالطلقاء وغيرهم .
ولم يقل أحد قط : إني أحق بهذا من أبي بكر ، ولا قاله أحد في أحد بعينه : إن فلانا أحق بهذا الأمر من أبي بكر .
وإنما قال من فيه أثر جاهلية عربية أو فارسية : إن بيت الرسول أحق [ ص: 456 ] بالولاية . لكون [32] العرب [ كانت ] في جاهليتها [33] تقدم أهل بيت الرؤساء ، وكذلك الفرس يقدمون أهل بيت الملك .
فنقل عمن نقل عنه كلام يشير به إلى هذا ، كما نقل عن أبي سفيان [34] . وصاحب هذا الرأي لم يكن [35] له غرض في علي ; بل كان العباس عنده بحكم رأيه أولى من علي ، وإن قدر أنه رجح عليا ، فلعلمه [36] بأن الإسلام يقدم الإيمان والتقوى على النسب ، فأراد أن يجمع بين حكم الجاهلية والإسلام .
فأما الذين كانوا لا يحكمون إلا بحكم الإسلام المحض ، وهو التقديم بالإيمان والتقوى ، فلم يختلف منهم اثنان في أبي بكر ، ولا خالف أحد من هؤلاء [37] ولا من هؤلاء في أنه ليس في القوم أعظم إيمانا وتقوى [38] من أبي بكر ، فقدموه مختارين له مطيعين ، فدل ذلك [39] على كمال إيمانهم وتقواهم ، واتباعهم لما بعث الله به نبيهم من تقديم الأتقى فالأتقى ، وكان ما اختاره الله لنبيهم [40] - صلى الله عليه وسلم - ولهم أفضل لهم ، والحمد لله على أن هدى هذه الأمة ، وعلى أن جعلنا من أتباعهم .


