ثم تفويت الصلاة بمثل هذا ، إما أن يكون جائزا ، وإما أنه لا يجوز [1] . فإن كان جائزا لم يكن على علي إثم إذا صلى العصر بعد الغروب ، وليس علي أفضل من النبي - صلى الله عليه وسلم - والنبي - صلى الله عليه وسلم - فاتته العصر يوم الخندق حتى غربت الشمس ، ثم صلاها ، ولم ترد عليه الشمس ، وكذلك لم ترد لسليمان لما توارت بالحجاب .
[ ص: 176 ] وقد نام النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه علي وسائر الصحابة عن الفجر حتى طلعت الشمس ، ولم ترجع لهم [2] إلى الشرق .
وإن كان التفويت محرما ، فتفويت [3] العصر من الكبائر . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله " [4] .
وعلي كان يعلم أنها الوسطى ، وهي صلاة العصر . وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين لما قال : " شغلونا عن الصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، حتى غربت الشمس ، ملأ الله أجوافهم وبيوتهم نارا " [5] وهذا كان في الخندق وخيبر بعد الخندق .
فعلي أجل قدرا من أن يفعل [ مثل ] [6] هذه الكبيرة ، ويقره عليها جبريل ورسول الله - صلى الله عليه وسلم . ومن فعل هذا كان من مثالبه لا من مناقبه ، وقد نزه الله عليا عن ذلك . ثم إذا فاتت لم يسقط الإثم عنه بعود الشمس .
وأيضا فإذا كانت هذه القصة في خيبر في البرية قدام العسكر ، والمسلمون أكثر من ألف وأربعمائة ، كان هذا مما يراه العسكر [ ص: 177 ] ويشاهدونه . ومثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي عن نقله ; فيمتنع أن ينفرد بنقله الواحد والاثنان ، فلو نقله الصحابة لنقله منهم أهل العلم ، كما نقلوا أمثاله ، لم ينقله المجهولون الذين لا يعرف ضبطهم وعدالتهم .
وليس في جميع أسانيد هذا الحديث إسناد واحد يثبت ، تعلم عدالة ناقليه وضبطهم ، ولا يعلم اتصال إسناده .
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر : " لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله " [7] فنقل ذلك غير واحد من الصحابة ، وأحاديثهم في الصحاح والسنن والمساند [8] .
وهذا الحديث ليس في شيء من كتب الحديث المعتمدة : ( * لا رواه أهل الصحيح [9] ولا أهل السنن ولا المساند أصلا [10] ، بل اتفقوا على تركه والإعراض عنه ، فكيف يكون مثل هذه الواقعة العظيمة ، التي هي لو كانت حقا من أعظم المعجزات المشهورة الظاهرة ، ولم يروها أهل الصحاح * ) [11] والمساند ، ولا نقلها أحد من علماء المسلمين وحفاظ الحديث ، ولا يعرف في شيء من كتب الحديث المعتمدة ! !
والإسناد الأول رواه القطري ، عن عون ، عن أمه ، عن [12] أسماء بنت عميس . وعون وأمه ليسا ممن يعرف حفظهم وعدالتهم ، ولا من [ ص: 178 ] المعروفين بنقل العلم ، ولا يحتج [13] بحديثهم في أهون الأشياء ، فكيف في مثل هذا ؟ ولا فيه سماع المرأة من [14] أسماء بنت عميس ، فلعلها سمعت من يحكيه عن أسماء فذكرته .
وهذا المصنف ذكر عن ابن أبي فديك أنه ثقة ، وعن القطري أنه ثقة ، ولم يمكنه [15] أن يذكر عمن بعدهما أنه ثقة ، وإنما ذكر أنسابهم . ومجرد المعرفة بنسب الرجل لا توجب أن يكون حافظا ثقة .
وأما الإسناد الثاني فمداره على فضيل بن مرزوق ، وهو معروف بالخطأ على الثقات ، وإن كان لا يتعمد الكذب [16] . قال فيه ابن حبان : يخطئ على الثقات ، ويروي عن عطية الموضوعات [17] . وقال فيه أبو حاتم الرازي [18] : لا يحتج به . وقال فيه يحيى بن معين مرة : هو ضعيف . وهذا لا يناقضه قول أحمد بن حنبل فيه : لا أعلم إلا خيرا ، وقول سفيان : هو ثقة ، وقول يحيى [19] مرة : هو ثقة [20] ; فإنه ليس ممن يتعمد الكذب ، ولكنه [ ص: 179 ] يخطئ ، وإذا روى له مسلم ما تابعه غيره عليه ، لم يلزم أن يروي ما انفرد به ، مع أنه لم يعرف سماعه عن إبراهيم ، ولا سماع إبراهيم من فاطمة ، ولا سماع فاطمة من أسماء .
ولا بد في ثبوت هذا الحديث من أن يعلم أن كلا من هؤلاء عدل ضابط ، وأنه سمع من الآخر ، وليس هذا معلوما . وإبراهيم هذا لم يرو له أهل الكتب المعتمدة - كالصحاح والسنن - ولا له ذكر في هذه الكتب ، بخلاف فاطمة بنت الحسين ، فإن لها حديثا معروفا ، فكيف يحتج بحديث مثل هذا ؟ ولهذا لم يروه أحد من علماء الحديث المعروفين في الكتب المعتمدة .
وكون الرجل أبوه كبير القدر لا يوجب أن يكون هو من العلماء المأمونين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عنه . وأسماء بنت عميس كانت عند جعفر ، ثم خلف عليها أبو بكر ، ثم خلف عليها علي ، ولها من كل [ من ] [21] هؤلاء ولد ، وهم يحبون عليا ، ولم يرو هذا أحد منهم عن أسماء . ومحمد بن أبي بكر الذي في حجر علي هو ابنها ، ومحبته لعلي مشهورة ، ولم يرو هذا عنها .
وأيضا فأسماء كانت زوجة جعفر بن أبي طالب ، وكانت معه في الحبشة ، وإنما قدمت معه بعد فتح خيبر . وهذه القصة قد ذكر أنها كانت بخيبر ، فإن كانت صحيحة كان ذلك بعد فتح خيبر ، وقد كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن شهد خيبر أهل الحديبية : ألف وأربعمائة ، [ ص: 180 ] وازداد العسكر بجعفر ومن قدم معه من الحبشة ، كأبي موسى الأشعري وأصحابه ، والحبشة الذين قدموا مع جعفر في السفينة ، وازدادوا أيضا بمن كان معهم من أهل خيبر ، فلم يرو هذا أحد من هؤلاء ، وهذا مما يوجب القطع بأن هذا من الكذب المختلق .
والطعن في فضيل ومن بعده إذا تيقن بأنهم [22] رووه ، وإلا ففي إيصاله إليهم نظر ; فإن الراوي الأول عن فضيل : الحسين بن الحسن الأشقر الكوفي [23] ، ( * قال البخاري : عنده مناكير . وقال النسائي وقال الدارقطني [24] : ليس بالقوي . وقال الأزدي : ضعيف . وقال السعدي : حسين الأشقر * ) [25] غال من الشاتمين للخيرة . وقال ابن عدي : روى حديثا منكرا ، والبلاء عندي منه ، وكان جماعة من ضعفاء الكوفة يحيلون ما يروون عنه من الحديث فيه [26] .
وأما الطريق الثالث ففيه عمار بن مطر ، عن فضيل بن مرزوق . قال [ ص: 181 ] العقيلي : يحدث عن الثقات بالمناكير . وقال الرازي : كان يكذب أحاديث بواطل . وقال ابن عدي : متروك الحديث [27] .
والطريق الأول من حديث عبيد الله بن موسى العبسي
[28] ، وفي بعض طرقه عن فضيل ، وفي بعضها : " حدثنا " [29] فإذا لم يثبت أنه قال : " حدثنا " [30] أمكن أن لا يكون سمعه ; فإنه من الدعاة إلى التشيع ، الحراص على جمع أحاديث التشيع ، وكان يروي الأحاديث في ذلك عن الكذابين ، وهو من المعروفين بذلك . وإن كانوا قد قالوا فيه : ثقة ، وإنه [ ص: 182 ] لا يكذب ، فالله أعلم أنه هل كان يتعمد الكذب أم لا ؟ لكنه كان يروي عن الكذابين المعروفين بالكذب بلا ريب . والبخاري لا يروي عنه إلا ما عرف به أنه صحيح من غير طريقه ، وأحمد بن حنبل لم يرو عنه شيئا . قال المصنف : وله روايات عن فاطمة سوى ما قدمنا [31] .
ثم رواه بطريق مظلمة ، يظهر أنها كذب لمن له معرفة منوطة بالحديث ، فرواه من حديث أبي حفص الكتاني [32] ، حدثنا محمد بن عمر [33] القاضي - هو الجعاني - حدثنا محمد بن إبراهيم بن جعفر العسكري من أصل كتابه ، حدثنا أحمد بن محمد بن يزيد بن سليم ، حدثنا خلف بن سالم ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا سفيان الثوري ، عن أشعث بن أبي الشعثاء ، عن أمه ، عن فاطمة ، عن أسماء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لعلي حتى ردت عليه الشمس .
وهذا مما لا يقبل نقله إلا ممن عرف عدالته وضبطه ، لا من مجهول الحال ، فكيف إذا كان مما يعلم أهل الحديث أن الثوري لم يحدث به ، ولا حدث به عبد الرزاق ؟ وأحاديث الثوري وعبد الرزاق يعرفها أهل العلم بالحديث ، ولهم أصحاب يعرفونها . ورواه خلف بن سالم . ولو قدر أنهم رووه فأم أشعث مجهولة لا يقوم بروايتها شيء .
وذكر طريقا ثانيا من طريق محمد بن مرزوق ، حدثنا حسين الأشقر ، عن علي بن هاشم ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن [ ص: 183 ] علي بن الحسين ، عن فاطمة بنت علي ، عن أسماء بنت عميس . . الحديث .
قلت [34] : وقد تقدم كلام العلماء في حسين الأشقر ، فلو كان الإسناد كلهم ثقات ، والإسناد متصل ، لم يثبت بروايته شيء ، فكيف إذا لم يثبت ذلك ؟ وعلي بن هاشم بن البريد قال البخاري : هو وأبوه غاليان في مذهبهما . وقال ابن حبان : كان غاليا في التشيع ، يروي المناكير عن المشاهير [35] . وإخراج أهل الحديث [36] لما عرفوه من غير طريقه لا يوجب أن يثبت ما انفرد به .
ومن العجب أن هذا المصنف جعل هذا والذي بعده من طريق رواية فاطمة بنت الحسين . وهذه فاطمة بنت علي لا بنت الحسين .
وكذلك ( * ذكر الطريق الثالث عنها : من رواية عبد الرحمن بن شريك ، حدثنا أبي ، عن عروة بن عبد الله ، عن فاطمة بنت * ) [37] علي ، عن أسماء ، عن علي بن أبي طالب ، رفع [38] إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أوحي إليه فجلله بثوبه ، فلم يزل كذلك حتى أدبرت الشمس ، يقول : غابت أو كادت تغيب ، وأن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - سري عنه ، فقال : أصليت يا علي ؟ قال : لا . قال : اللهم رد على علي الشمس ، فرجعت الشمس حتى بلغت نصف المسجد .
[ ص: 184 ] فيقتضي أنها رجعت إلى قريب وقت العصر ، وأن هذا كان بالمدينة . وفي ذاك الطريق أنه كان بخيبر ، وأنها إنما [39] ظهرت على رءوس الجبال . وعبد الرحمن بن شريك قال أبو حاتم الرازي : هو واهي الحديث ، وكذلك قد ضعفه غيره .
ورواه من طريق رابع من حديث محمد بن عمر القاضي - وهو الجعاني - عن العباس بن الوليد [40] ، ( * عن عباد [41] وهو الرواجني * ) [42] ، حدثنا علي بن هاشم ، عن صباح بن [43] عبد الله بن الحسين أبي جعفر ، عن [44] حسين المقتول ، عن فاطمة ، عن أسماء بنت عميس ، قالت : كان يوم خيبر شغل عليا ما كان من قسم المغانم [45] ، حتى غابت الشمس أو كادت . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : أما صليت ؟ قال : لا . فدعا الله فارتفعت حتى توسطت السماء ، فصلى علي ، فلما غابت الشمس سمعت لها صريرا كصرير المنشار في الحديد .
وهذا اللفظ الرابع يناقض الألفاظ الثلاثة المتناقضة ، وتبين أن [ ص: 185 ] الحديث لم يروه صادق ضابط ، بل هو في نفس الأمر مما اختلقه واحد وعملته يداه ، فتشبه به آخر ، فاختلق ما يشبه حديث ذلك . والقصة واحدة . وفي هذا أن عليا إنما اشتغل بقسم المغانم لا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلي لم يقسم مغانم خيبر ، ولا يجوز الاشتغال بقسمتها عن الصلاة ; فإن خيبر بعد الخندق ، سنة [46] سبع ، وبعد الحديبية ، سنة ست . وهذا من المتواتر عند أهل العلم .
والخندق كانت قبل ذلك ، إما سنة خمس أو أربع ، وفيها أنزل الله تعالى : ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) [ سورة البقرة : 238 ] ، ونسخ التأخير بها [47] يوم الخندق ، مع أنه كان للقتال عند أكثر أهل العلم [48] . ومن قال : إنه لم ينسخ ، بل يجوز التأخير للقتال ، كأبي حنيفة ، وأحمد - في إحدى الروايتين - فلم يتنازع العلماء أنه لم يجز تفويت الصلاة لأجل قسم الغنائم ; فإن هذا لا يفوت ، والصلاة تفوت .


